الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحبه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فابتلى المسلمون بالفتن وبكثرة الفتن ، وكثرتها يعتبر علماً من أعلام النبوة ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : " ينقص العلم ، ويظهر الجهل ، وتكثر الفتن ، ويكثر الهرج " ، قيل : وما هو يا رسول الله ؟ ، قال : " القتل القتل " .
فهذا يعتبر علماً من أعلام نبوة محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، ويزداد المؤمن إيماناً ، والنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أمرنا بالاستعاذة من الفتن ، ففي آخر الصلاة نقول : " اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال ، شاهدنا من هذا : فتنة المحيا والممات ، وفتنة المسيح الدجال .
وتخوف النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على أمته من الفتن ، وحذرهم منها ، وأمرهم بالبعد عنها ، ورب العزة يقول في كتابه الكريم : " وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً " .
وروى البخاري في صحيحه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً " .
فيسبب كثرة الفساد والتغاضي عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حدثت الفتن التي ينسي يعضها بعضاً كما يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : " وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا " .
ويقول سبحانه وتعالى : " وَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ " ، فسبيل المسلم في البعد عن الفتن أن يتوب إلى الله تعالى ، وأن يقبل على الكتاب والسنة وعلى دين الله ، فالرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول كما في صحيح مسلم من حديث جابر الطويل : " إني تارك فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا : كتاب الله " .
فإذا اعتصمنا بكتاب الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فهما أمان من الضلال ، ثم بعد هذا الصبر يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : " يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " .
وانتظار الفرج أيضاً من الأسباب إذا انتظر المسلم الفرج فإن الله سبحانه وتعالى يفرج عنه .
فالفتن مدلهمة ، والمسلمون عقلاؤهم حيارى في هذه الفتن ، فالفتنة إن ظهر لك أمرها وعرفت المحق من المبطل ناصرت المحق وآزرته ، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ " ، وإن لم يظهر المحق من المبطل فعلى المسلم أن يعتزل ، والرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري وقد سئل أي الناس خير ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " رجل ركب فرسه كلما سمع هيعة طار إليها ، ورجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره " .
وقال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كما في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري : " يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " .
فمثل هذه الفتن إن استطاع المسلم أن يعتزلها فليفعل ، وليس الاعتزال الصوفي وهو أن تلزم زاوية من زوايا المسجد ، أو تلزم حجرة من حجر بيتك ثم تنقطع عن الجمع والجماعات وعن الدعوة إلى الله ، لكن تعتزل الفتن وأهلها وتدعو إلى الله في حدود ما تستطيع .
والأمر مهم جداً في الإقبال على العلم النافع ، فإنك لا تستطيع أن تميز بين المحق والمبطل إلا بواسطة العلم النافع ، وقد رأينا أناساً يتخبطون بسبب زهدهم وتزهيدهم في العلم النافع ، وأصبحوا أتباع كل ناعق ، والمسلم يجب عليه أن يتقي الله ، وألا يتبع إلا من علم أنه على الحق ، يقول الله سبحانه وتعالى مبيناً للندم الذي سيندمه العبد إذا كان إمعه يتبع من دعاه : " وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا " .
فعلى المسلم أن يسال وأن يبحث ويفحص عن الفرقة الناجية من أجل أن ينتظم في سلكها ، فقد روى أبو داود في سننه من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة " فيجب البحث عن هذه الفرقة .
وفي الصحيحين من حديث معاوية والمغيرة بن شعبة والمعنى متقارب عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " ، وهذا الحديث مروي عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم .
فجدير بنا أن نعرف هذه الفرقة من أجل أن نسألها عن ديننا وإلا إذا قلت : سأتبع الكثرة فرب العزة يقول في كتابه الكريم : " وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ " ، ويقول : " وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ " ، ويقول : " وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ " .
فإذا كان الميزان عندك الكثرة ، فالكثرة مذمومة ، وإذا كان الميزان عندك البلاغة والفصاحة في الخطابة ، فالله قد وصف المنافقين بأنهم من ذوي الألسنة الحداد ويقول : " وإن يقولوا تسمع لقولهم " .
فالمعتبر هو معرفة أهل الحق بصفاتهم ، وأنهم يدعون إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لا يريدون من الناس جزاء ولا شكوراً " اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ " .
فهذا شأن أهل الحق أنهم يدعون الناس إلى كتاب الله ، وإلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لا يبغون من دعوتهم أن ينتخبهم الناس ، ولا أن يصوت لهم الناس ، ولا أن يجعلوهم رؤساء عليهم ، ولا يجعلوا لهم أموالاً ، يتبعون أهل الحق الذين يدعون إلى كتاب الله ، وإلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهذا أمر مضمون ، ولا تظن أن أهل الحق قد انقرضوا ، فيوجد شباب أفاضل من أهل السنة بأرض الحرمين ، وبمصر ، وبالسودان ، وباليمن ،وبالجزائر ، وفي جميع البلاد الإسلامية ، شباب صالح يعرفون الواقع وما المسلمون عليه .
فيجب أن نحرص على معرفة أهل الحق ، وأن نسألهم فإن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم : " فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ " ، تسأل العلماء ، لكن أي علماء ؟!! علماء التمسح بأتربة الموتى ؟!! علماء الحزبية ؟!! علماء الضلالة ؟!! علماء الحكومات ؟!! تسأل العلماء الذين يبلغون رسالات الله : " وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ " .
فهذه صفة من صفات الفرقة الناجية ، ومن صفات أهل العلم الذين ينبغي أن يسألوا ، أما العالم الذي يَهاب المجتمع ، وينهزم أمام المجتمع ، فهذا مسكين لا ينبغي أن يسأل ، يقول : والله صحيح إن الوحدة مع الشيوعيين لا تصح ولا تجوز ، لكن وجدنا الشعب مؤيداً لهذا الأمر فما أحببنا أن نصطدم مع الشعب ، ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل إذ يقول : إذا لم يبين العالم علمه فمتى يعلم الجاهل ، ورب العزة يقول في كتابه الكريم :" إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ " ، فالعلماء الانهزاميون لا يدلون الناس على الخير ، ويسترون أيضاً على أنفسهم .
وعند أن كنا في الجامعة الإسلامية قال لنا مدرس من المدرسين : يا أبنائي لا تحرموا الصور فإنكم إن حرمتم الصور أوقعتم الناس في حرج ، يا سبحان الله يا مسكين أنحن المحللون والمحرمون أم الله عز وجل ؟ نحن ليس لنا من الأمر شيئ أن نقول : هذا حلال وهذا حرام إلا بدليل من كتاب الله ، ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، أنحن أرحم بعباد الله من الله : " وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا " ، فمن الممكن أن يقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : لعن الله المصورين إلا في آخر الزمان ، ممكن أن يقول هذا " وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا " ، والملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة إلا آخر الزمان ، ومن تراهات هؤلاء الانهزاميين الذين ينهزمون أمام الواقع الهروب إلى الآراء ، ونحن نقول لهم الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " متفق عليه .
فلا بد من معرفة أهل السنة ، ومعرفة الفرقة الناجية ، من أجل أن تسأل عن هذا الدين ، فقد أصبح الدين حكومياً عند كثير من الناس إلا من شاء الله ، فالحلال ما أحلته الحكومة ، والحرام ما حرمته الحكومة والله المستعان .
------------
راجع كتاب قمع المعاند : ( 2 / 547 إلى 552 ) .