أما هذا أن الأحكام تتغير فالأصل أنها لا تتغير ، وقد ذكر هذا عن ابن القيم ، بل قد رأيته ولكني بعيد عهد به في كتابه < أعلام الموقعين > ، وهو أن الفتوى قد تتغير بتغير الزمان والمكان ، لكن الله عز وجل يقول لنبيه محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ " ، فالأصل هو عموم التشريع .
ويقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : "لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ " .
ويقول سبحانه وتعالى : " فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ " .
ويقول الله سبحانه وتعالى : " فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ " .
ويقول سبحانه وتعالى : " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ " .
فنحن لسنا مخيرين في هذا الأمر ، بل يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا " .
ويقول سبحانه وتعالى : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا " .
فلسنا مخيرين في هذا ، " مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ " ، لسنا بأرحم من الله سبحانه تعالى بعبادة ، ولا أعلم بمصالح عباده ، وقول الحافظ ابن القيم ينظر فأولاً أنه ليس بحجة ، وإن كنا نحن نستفيد من كتبه ، وننصح كل مسلم باقتناء كتبه ، وهكذا شيخ الإسلام ابن تيمية ، والشيخ محمد بن عبدالوهاب وغيرهم من علمائنا نستفيد من كتبهم ، أما أننا نقول : أن القول ما قالت حذام ، فلا ، القول ما قال الله ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
وأما الإمام الشافعي في تغير فتواه ؛ ازداد علماً ، والشخص كلما ازداد علماً ظهر له خطؤه من قبل ، كل الناس ، ونحن من جملة الناس ، فرب مسألة نقررها وبعد أيام إما أن نلحق بها ما يقيدها ، أو نلحق بها ما يخصصها ، فهذا شأن البشر .
فالإمام الشافعي في العراق كان له المذهب القديم ، فلما انتقل إلى مصر ازداد علمه ، والتقى بالإمام أحمد وهو ببغداد وقال له : إذا صح الحديث عندك فأخبرني به ، سواء كان عراقياً أم كان مدنياً إلى غير ذلك .
والإمام الشافعي رحمه الله تعالى هو الذي سُئل عن حديث فقيل له : هو صحيح ؟ قال : نعم ، فقيل : أتقول به ؟ ، فأخذت الإمام الشافعي رعدة ، وتصبب عرقاً ، وقال : ويلك أتظنني يهودياً ، أتراني لابساً زناراً ، أشهدكم أنني إذا رويت حديثاً صحيحاً ثم خالفته فإن عقلي قد ذهب .
فالإمام الشافعي رحمه الله هو القائل : إذا صح الحديث فهو مذهبي ، فازدادت معلوماته ، فتغيرت بعض آرائه ، وهذا يدل على عظيم إنصافه ، ليس كبعض الناس إذا زلت قدمه كابر وعاند .
ثم إن الشيوعيين ، والبعثيين ، والعلمانيين ، وأعداء الإسلام يفرحون بمثل هذا ، ويريدون أن يكيفوا الإسلام على ما يريدون ، فهم لا يؤمنون بالإسلام ، ولا بتعاليم الإسلام ، ولكن يريدون أن يضحكوا على المتمسكين بالدين من أصحاب اللحى ، ومن النسوة الملتزمات ، ويقولون : الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان ، ويقولون أيضاً بالمصالح المرسلة ، ويقولون بالاستحسانات ، وربما احتجوا بقول عمر ، أو بقول أبي ذر ، أو بقول علي بن أبي طالب .
فنقول لهم : ما عندنا إلا كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، يقول الله عز وجل : " اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ " ، وهؤلاء العلماء نجلهم ونستفيد من أفهامهم ، ونستعين بأفهامهم على فهم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، أما أن نجعلهم حجة فلا .
ويعجبني قول أبي محمد بن حزم رحمه الله تعالى وقد اُستدل عليه بحديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ " فقال أبو محمد بن حزم : إما أن نأخذ بسنن الخلفاء الراشدين المهديين كلها ، وهذا لا سبيل إليه لأنهم قد اختلفوا .
وإما أن نتركها كلها وهذا أيضاً ضلال مبين ، لأن من سننهم ما هو موافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
وإما أن نأخذ من سننهم ما وافق سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، قال : وهذا هو قولنا .
فليس عندنا حجة إلا كتاب الله ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، فأبوبكر وعمر عند أن قدم وفد بني تميم فقال أبو بكر : يا رسول الله أمر فلاناً ، وقال عمر : يا رسول الله أمر فلاناً ، لرجل غير الذي اختاره أبو بكر ، حتى ارتفعت أصواتهما ، فأنزل الله في كتابه الكريم : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " إلى قوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ " ، فإذا كان هذا الوعيد لأبي بكر وعمر وهما هما ، فما ظنك بغيرهما ، فليس هناك حجة إلا القرآن ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
والنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في حجة الوداع كما في صحيح مسلم من حديث جابر الطويل يقول : " إني تارك فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبداً : كتاب الله " .
فهذا هو العصمة ، وهكذا سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
وإنني أنصح كل مسلم بهذا لأنه سيستريح كثيراً ، فأنت تقول : قال الله ، قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، ويأتي لك بأثر ضعيف عن صحابي أو تابعي أو إمام من الأئمة ، أو ربما يأتي لك بقول محمد الغزالي المنحرف ، أو بقول حسن الترابي المنحرف ، أو بقول علي الطنطاوي أو بقول محمد الشعراوي إلى غير ذلك ، لا ، كتاب وسنة ليس إلا ، ونستعين بالله ثم بأفهام سلفنا الصالح على فهم الكتاب والسنة .
ولا نقول : هم رجال ونحن رجال ، والشافعي رجل وأنا رجل ، لا ، الفرق بيني وبينه كما بين السماء والأرض ، لكن ليس هناك حجة إلا الكتاب والسنة ، فنستعين بفهم الإمام الشافعي ، وبفهم شيخ الإسلام ابن تيمية ، وبفهم الصحابة وغيرهم من علمائنا نستعين بأفهامهم على فهم الكتاب والسنة ، كما قال عبدالله بن المبارك رحمه الله : خذوا من الرأي ما تفسرون به الكتاب والسنة أو بهذا المعنى .
---------
راجع كتاب قمع المعاند : ( 2 / 563 إلى 566 ) ..