من المعلوم أن السنة والبدعة ومفهومهما من أصول الدين ومعرفتهما من المعلوم بالضرورة فما هو مفهوم السنة والبدعة عند السلف الصالح وهل جاء دليل على تقسيمهما مع الدليل ؟
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد :
فمفهوم السنة : طريقة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، وهي تشمل ما جاء به من كتاب الله ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال الشاعر :
من معشر سنت لهم آباؤهم **** ولكل قوم سنة وإمامها
والنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول كما في الصحيحين من حديث أنس : " فمن رغب عن سنتي فليس مني " أي : عن طريقتي .
بل الله عز وجل يقول في كتابه الكريم : " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ " .
ويقول أيضاً : " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " ، ويقول أيضاً : " فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً " ، ويقول أيضاً : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا " .
وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " إن لكل عمل شرة ، ولكل شرة فترة ، فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك " ، ومعنى الحديث : أن لكل عمل نشاطاً ، ولكل نشاط فترة ، فإذا فتر الشخص من حفظ القرآن أخذ كتاباً من كتب الحديث يتسلى به حتى يرجع إليه نشاطه ، فهذا على هدى ، لكل من فتر عن حفظ القرآن ثم ذهب إلى الأغاني أو إلى البدع فقد هلك .
وروى الإمام أحمد في نسنده عن كعب بن عجرة وجابر بن عبدالله والمعنى متقارب : أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : " يا كعب بن عجرة ! أعاذك الله من إمارة السفهاء " ، قيل : وما إمارة السفهاء يا رسول الله ؟ ، قال : " أمراء يكونون من بعدي لا يستنون بسنتي ولا يهتدون بهديي ؛ فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد عليَّ الحوض ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون عليّ الحوض " .
وفي الصحيحين من حديث حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - عند أن سئل : فهل بعد ذلك الشر من خير ؟ ، قال : " نعم ، وفيه دخن " ، قال : وما دخنه يا رسول الله ؟ ، قال : " قوم لا يستنون بسنتي ولا يهتدون بهديي ؛ تعرف منهم وتنكر " .
فسنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - تعتبر أماناً من الضلال ، يقول الله سبحانه وتعالى : " وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا " .
أما البدعة فهي في اللغة : ما أحدث على غير مثال سابق ، وفي الشرع : ما أحدث مما يتقرب به ولم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
والنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فرق بين السنة والبدعة ، فعند أن قال في حديث العرباض بن سارية الذي في السنن : " فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة " ، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .
وفي < صحيح مسلم > مسنداً وفي البخاري معلقاً : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " .
ورب العزة يقول في كتابه الكريم : " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا " ، ويقول سبحانه وتعالى : " وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ " ، ويقول سبحانه وتعالى : " اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ " ، ويقول : " وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ " ، أي لا تتبع ما ليس لك به علم .
وما ضلت المعتزلة وغيرها من الفرق الضالة إلا بسبب تقديمها آراءها على كتاب الله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، ولا أقول : تقديمها عقولها فإنه الهوى وليس بالعقل ؛ لأن العقل الصحيح لا يخالف النقل الصحيح هكذا قال العلماء رحمهم الله تعالى .
فالآراء من زمن قديم والعلماء يحذرون منها ، يقول سهل بن حنيف كما في < صحيح البخاري > : أيها الناس ! اتهموا آراءكم ، ولقد رأيتني مع رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في قصة أبي جندل ولو استطيع أن أرد على رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أمره لرددته عليه .
ويقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه ، ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءؤساً جهالاً فسئلوا فأفتوا برأيهم - هكذا في كتاب الإعتصام من < صحيح البخاري > وفي الروايات الأخرى : فأفتوا بغير علم - فضلوا وأضلوا " .
وعبدالله بن المبارك رحمه الله يقول : خذوا من الرأي ما تفسرون به كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، وأولئك وهؤلاء أخذوا من الرأي ما يتعبدون به كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
فالدين ليس بالرأي ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، ولقد رايت رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يمسح على أعلاه .
ورب العزة يقول لنبيه محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ " ، فلسنا مفوضين في دين الله نحل للناس ما نشاء ونحرم عليهم ما نشاء ، بل من أعظم الجرم ومن أعظم الكبائر : " وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ " ، ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : " قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " شاهدنا من هذا : " وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ " .
فالمفتي والمحدث والمعلم العلم الديني يوقع عن الله عز وجل ، فيجب عليه أن يتقي الله عز وجل ، وقد دخل على الإسلام شر مستطير بسبب البدع من زمن الصحابة ؛ واصله كان موجوداً في عصر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، يقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الخارجي الذي أتى إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وقال له : اعدل يا محمد ، قال : " ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل " ، فأراد بعض الصحابة أن يقتله ، فقال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " إنه سيخرج أقوام من ضئضئ هذا - أي : من صلبه - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " .
فكان أصل الخوارج المبتدعة في زمن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، ثم ظهر مصداق ذلك في زمن علي بن أبي طالب .
وهكذا التشيع المبتدع ظهر في زمن علي بن أبي طالب ، فقد جاء جماعة من الشيعة وقالوا : أنت هو ، قال : من؟ ، قالوا : أنت الله ، قال : ويحكم أنا رجل آكل وأشرب وأبول وأتغوط ، ثم وعظهم ، وأبوا ، فخد الأخاديد ، وأضرم النيران فيها ، وقال : إن لم تراجعوا قذفتكم في هذه الأخاديد حتى قال علي بن ابي طالب :
لما رايت الأمر أمراً منكراً **** أججت ناري ودعوت قنبراً .
ولا نريد أن نسترسل في شأن البدعة ، فننصح بقراءة كتاب الإعتصام من < صحيح البخاري > ، وبعده كتاب التوحيد ، وكتاب < الإعتصام > للشاطبي ، وكتاب < البدع والنهي عنها > لمحمد بن وضاح الأندلسي .
ولم يثبت دليل تقسيم البدعة ، والرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول : " كل بدعة ضلالة " ، وكل من ألفاظ العموم ، فالمبتدعة أسسوا لأنفسهم أمراً مبني على شفا جرف هار .
---------------
راجع كتاب : ( غارة الأشرطة 1 / 154 إلى 156 )