أما من ارتكب ما يوجب كفره كأن يرتد إلى النصرانية أو إلى الشيوعية أو بعثية يعتقد عقيدة ميشيل عفلق فهذا يكفر ، وأما من ارتكب محرماً ويمكن أن يؤول ما ارتكبه كبعض الحكام الذين يستوردون القوانين الوضعية فلا بد من الشروط الثلاثة : أن يكون عالماً ، وألا يكون مكرهاً - وهم ليسوا بمكرهين - ، وأن يرى أن هذه القوانين الوضعية مثل حكم الله أو أحسن من حكم الله كما يقول الله سبحانه وتعالى : " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " [المائدة :50] ، والتوسل إلى تكفير المسلمين فقد تقدم أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : " من قال لأخيه يا كافر فإن كان كما قال وإلا رجع عليه " ، فمثلاً النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول : " سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " متفق عليه من حديث ابن مسعود ، ويقول : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " .
ويقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " اثنان في الناس هما بهما كفر : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت " .
فمثل هذه الأمور التي قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في شأن قتل النفس المحرمة أنها كفر فلا بد من رجوع إلى بقية الأدلة ، والإمام البخاري رحمه الله تعالى يبوب في < صحيحه > في كتاب الإيمان : باب من قال : إنه كفر دون كفر ، ونفاق دون نفاق ، وفسق دون فسق أو بهذا المعنى ، ثم يذكر حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال : " المسلمان إذا التقيا بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " ، فشاهد الإمام البخاري رحمه الله لفظة ( المسلمان ) وهذا من دقيق عباراته في تراجمه رحمه الله تعالى ، فربما أقرأ أنا وأنت الحديث ولا نفطن بأن فيه رداً على الخوارج وعلى المعتزلة ، ولكن هو استنبط من قوله ( المسلمان ) ، على أنهما ما خرجاً من الدين ، ثم ذكر قوله تعالى : " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ " [الحجرات : 9] فسماهم مؤمنين ، وتكفير المسلمين أمر عظيم فمحمد بن إبراهيم الوزير علامة اليمن يقول في كتابه < إيثار الحق على الخلق > : لأن تخطئ في الحكم على الكافر بأنه مسلم أهون من تخطئ في الحكم على المسلم بأنه كافر .
فالواجب هو الاحتياط والبعد عن هذا ، ولكن إلى الله المشتكى مع غياب سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ظهرت البدع ، وظهرت فرق الخوارج الذين يقول فيهم النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنهم يقتلون أهل الإيمان ويتركون أهل الأوثان ، ويقول أيضاً كما في < الصحيح > من حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري : " إنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " ، ويقول أيضاً كما في < مسند الإمام أحمد > من حديث أبي أمامة وعبدالله بن أبي أوفى : " إنهم كلاب أهل النار " ، ابتلى الله المسلمين ببدعة الخوارج ، وهي تعتبر أول بدعة حدثت في الإسلام لأن أصلها كان موجوداً على عهد النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، فقد جاذ ذلك الأعرابي وهو ذو الخويصرة فقال : يا محمد أعطني فإنك لا تعطني من مالك ولا من مال أبيك ، فقام إليه أحد الصحابة وقال : أأقتله يا رسول الله ؟ قال : " لا إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم ، وصيامكم مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " أو بهذا المعنى .
وتكفير المسلمين ليس من صالح الدعوة الإسلامية ، ولا يزال المسلمون بخير والحمد لله في جميع البلاد الإسلامية يتألمون مما يحدث من حكامهم ، والرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - يقول : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ولا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " متفق عليه من حديث معاوية .
وأعظم سبب في انتشار هذه الفكرة الخبيثة - وهي فكرة التكفير - هو عدم قيام العلماء بالتعليم في المساجد وفي مجتمعات المسلمين ، فقد كان عندنا ههنا أناس بالذياكي مجموعة تكفر المسلمين : من شرب الدخان فهو كافر ، وأما القات فيخزنون مع الناس ، فصعدنا إليهم والحمدلله تكلمنا على أحاديث الرجاء وأنه لا بد من الجمع بين آيات الرجاء وأحاديث الوعيد مع آيات وأحاديث الرجاء ، وقاطعونا وقت إلقاء الكلمة لكن بعد أيام بلغني أنهم قد أوشكوا على النتهاء ، فقد عرف الناس أنهم مبتدعة .
فأهل البدع يأخذون جانباً من الدين ويتركون جانباً آخر ، فهم يأخذون بأدلة الوعيد ويتركون أدلة الرجاء يقول لك : قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " فنفى عنه الإيمان ، وقال سبحانه وتعالى : " وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا " [الجن : 23] فيأخذون بجانب الوعيد ويتركون جانب الرجاء مثل قوله تعالى : " إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ " [النساء : 116] ، مثل قوله تعالى : " قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " [الزمر : 53] ، ومثل حديث أن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أخبر أبا ذر بأنه يدخل الجنة من قال : لا إله إلا الله ، فقال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ ، قال : " وإن زنى وإن سرق " ، قال : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ ، قال : " وإن زنى وإن سرق " ، قال : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ ، قال : " وإن زنى وإن سرق رغن أنف أبي ذر " ، فكان أبو ذر يحدث بهذا يقول : زإن زنى وإن سرق رغن أنف أبي ذر .
فلا بد من الجمع بين حديث : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " إذا كان مستحلاً أو أن الإيمان يرتفع على راسه كالظلة ويبقى معه أصل الإيمان ، وأما " وإن زنى وإن سرق " فهو يعتبر مرتكباً لكبيرة وهو تحت مشيئة الله ، فإن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ، وإذا كان موحداً فمآله الجنة .
فالقصد أن علماءنا رحمهم الله أخذوا بأحاديث وآيات الوعيد وأخذوا ايضاً بآيات وأحاديث الرجاء فلم يكونوا مرجئة مبتدعة ويقولون : القول كافٍ ، ويؤخر العمل ، ولم يكونوا كالمعتزلة والخوارج الذين يتوصلون إلى الحكم على المسلمين بالنار ، بل صاروا وسطاً كما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - .
-----------------
راجع كتاب : ( غارة الأشرطة 2 / 292 إلى 295 )