: ذكر أبوعاصم عبدالعزيز القاري في كتابه «برنامج عملي للمتفقهين» (ص25) أن أسلم وأسهل طريقة لمعرفة فقه الأحكام هي التمذهب وقال: إنه قال هذا ردا على بعض العلماء المتأخرين وهو الشوكاني -رحمه الله-، فإنه دعا المتفقهين إلى التفقه بعيدا عن هذه المذاهب الأربعة -وأطال، ثم في ص(27) قال: - فعليك يا متفقه أن تتخذ التمذهب وسيلة إلى التفقه في أحكام الشريعة، وشنع في هامشها على قوم، قال عنهم المعلمين الشوكانيين، وقال في ص(40): في سلم تعلم التفسير: يبدءون «بتفسير الجلالين» ثم «تفسير البيضاوي» ثم «تفسير ابن كثير»، قال: وإن أنكرتم على تأخير «تفسير ابن كثير» بعد «الجلالين» و«البيضاوي»! فأقول: لأن «تفسير ابن كثير» فيه إسرائيليات وروايات حديثية تحتاج إلى طالب علم وإلا فهو من أجل التفاسير قدرا، وقال في الهامش عن «تفسير الجلالين» و«البيضاوي»: هذان التفسيران من أجل التفاسير وأكثرها فائدة للمتعلم لما فيهما من عناية باللغة والإعراب وأسباب النزول ومعاني الآيات وغيرها من أغراض التفسير مع متانة أسلوبهما ودقة عباراتهما على ما فيهما من أشعريات يتولى تنبيه المتعلم إليها شيخه. وعلق على «تفسير ابن كثير» بقوله: هذا مع أن ابن كثير قليل العناية بتفسيره بالإعراب واللغة والأحكام الفقهية وإنما يمتاز بسلامة الفكرة وصحة تفسير المعنى والاعتماد على المأثور وهو قبس من «تفسير ابن جرير» و«ابن أبي حاتم» فما قولكم في ذلك حفظكم الله تعالى؟
ينبغي أن يعلم أن عبدالعزيز القاري حنفي، ثم أين الدليل على أنه يجب عليه أن يتمذهب بل أين الدليل على التمذهب فذاك يكون شافعيا، وذا حنبليا، وذاك يكون مالكيا، وذاك حنفيا، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء﴾ .
والصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسألون عن الدليل، فجاء عن جابر -رضي الله عنه- أنه سئل: أأضبع صيد؟ قال: نعم، قيل له: أسمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؟ قال: نعم.
وفي «الصحيحين» أن أبا موسى أستأذن على عمر وكان عمر مشغولا فقال بعد أن انتهى: ألم أسمع صوت الأشعري؟ قالوا: نعم، أستأذن ثم رجع، فقال: ائتوني به. فرجع فقال: ما منعك من الدخول! قال: هكذا أمرنا رسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. فقال: لتأتيني ببينه أو لأوجعنك. فذهب أبوموسى إلى مجلس للأنصار وقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا. وهو أبوسعيد فقام وشهد له بذلك، فقال عمر: أما أني لم أتهمك بذلك ولكن أردت أن أتثبت. وفي «الصحيح» أيضا أن عمران بن حصين قال: نزلت العمرة والتمتع في كتاب الله وعملنا بها مع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فقال رجل برأيه -يعني عمر بن الخطاب-.
ولولا رحلة المحدثين لما وصل إلينا هذا الخير، وهذه المذاهب أوردت العداوة بين المجتمع كما يقول الزمخشري:
وإن يسألوا عن مذهبي لم أبح به
وأكتمه؛ كتمانه لي أسلم
فإن حنفيا قلت: قالوا: بأنني
أبيح الطلا وهو الشراب المحرم
وإن مالكيا قلت: قالوا: بأنني
أبيح لهم لحم الكلاب وهم هم
وإن شافعيا قلت: قالوا: بأنني
أبيح نكاح البنت والبنت تحرم
وإن حنبليا قلت: قالوا: بأنني
ثقيل حلولي بغيض مجسم
وإن قلت من أهل الحديث وحزبه
يقولون: تيس ليس يدري ويفهم
تعجبت من هذا الزمان وأهله
فما أحد من ألسن الناس يسلم
واقرأ «السيرة» لابن كثير تجد خصاما بين الحنابلة والحنفية وبين الشافعية والمالكية ورب شخص يطرد من بلده لأنه أبى أن يتمسك إلا بالدليل.
وأما الشوكاني في كتابه «القول المفيد لأدلة الاجتهاد والتقليد» فلم يأت بشيء جديد من عنده ونحن نسأل هذا القائل: هل العامة يشملهم قول الله تعالى: ﴿اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون﴾ ، أم لا يشملهم؟ الواقع أنه يشملهم.
يقول الله عز وجل: ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا﴾ ، ويقول: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾ ، ويقول: ﴿وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا﴾ .
وأنا مستعد أن آتي بطالب من هنا يكون مبرزا في العلم أحسن من عبدالعزيز القاري في الفقه، لأن فنه هي القراءة فلا نغمطه عليها، فأنا مستعد أن آتي بأخ يذكر المسألة ودليلها من كتاب الله ومن سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
ثم هم يصعبون الشيء السهل فالنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يصف الصلاة وهو على المنبر وكان عثمان يصف الوضوء للصحابة بالفعل، وكان علي بن أبي طالب يصف الوضوء أيضا للصحابة بالفعل وأنا أسأل عبدالعزيز القاري: هل عبارات «زاد المستقنع» أسهل أم عبارات «بلوغ المرام»؟ فتجد عبارات في «زاد المستقنع» ربما يتحير القارئ فيها.
وقد ذكر بعض الإخوة في رسالة له أشياء طيبة في هذا، يقول: ومما قالوا: رجل يصلي وهو يحمل مزاده من فسو، فهل صلاته صحيحة أم لا؟ أو رجل يصلي وعنده ثوب من جلود الذر فهل صلاته صحيحة أم لا؟، ومن هذه الأمور، فاحمدوا الله الذي نجاكم من التقليد.
فهل قال لنا أبوحنيفة نقلده، وهل قال لنا مالك نقلده، وكذلك هل قال الشافعي نقلده وأيضا أقال ابن حنبل نقلده! بل نهوا عن تقليدهم.
فهذه مقالة قد سمعناها لبعض الناس ونحن في الجامعة الإسلامية، يقولون: الذين يدعون إلى الدليل يدعون الناس إلى الفرقة. فهل الذي يدعو الناس إلى أن يكونوا يدا واحدة وفكرة واحدة يدعو الناس إلى الفرقة! أم الذي يوزعهم إلى شافعي ومالكي وحنبلي وحنفي!.
وإنني أحمد الله فقد كنت أكتب على السبورة: أتحدى من يأتي بدليل على أننا ملزمون باتباع مذهب معين، فلا يستطيع أحد أن يأتي بدليل، ونحن في الجامعة الإسلامية.
وأما بالنسبة للتفسير فالشوكاني -رحمه الله- يقول في «تفسير ابن كثير»: وتفسيره من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها. قال ذلك في «البدر الطالع» في ترجمة ابن كثير، ويقول السيوطي كلاما نحو ذلك قال ذلك في «طبقات الحفاظ»، فـ«تفسير ابن كثير» فيه العقيدة الحقة، فلا أعلم له نظيرا.
أما «تفسير الجلالين» فهو مضطرب، فتارة يقول في ﴿استوى﴾ استوى استواء يليق بجلاله، وتارة يقول: استولى، لأن المؤلفين اثنان أحدهما جلال الدين السيوطي، ويقول في ﴿العزيز الحكيم﴾ قال: في صنعه، فنقول: لا، هو حكيم مطلق في صنعه وفي وعده ووعيده وفي جميع شئون خلقه، وهكذا «تفسير البيضاوي».
فأف ثم أف لهذه المقالة، أيعادل «تفسير ابن كثير» بـ«تفسير الجلالين» وبـ«تفسير البيضاوي»! وأنا أخشى يا عبدالعزيز أن يكون هناك شيء بعد هذه الإرشادات إلى «تفسير الجلالين» و«البيضاوي» والتزهيد في «تفسير ابن كثير».
ويقول في «تفسير ابن كثير»: ليس فيه إعراب. فأقول: هل أنزل القرآن من عند الله لأجل الإعراب نعربه مبتدأ وخبرا وفعلا وفاعلا وحالا أم أنزل من أجل الهداية؟. والجواب: أنه أنزل من أجل الهداية وبيان الأحكام.
بل الإعراب في تفسير القرآن يشغلك عن التدبر، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾ ، ويقول: ﴿كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته﴾.
فهذا الكلام أخشى أن بعده شيئا، ولعبدالعزيز القاري رسالة طيبة في الرد على الإخوان المسلمين بعنوان: «العقيدة أولا لو كانوا يعلمون».