إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
﴿ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾.
﴿ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا﴾.
﴿ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما﴾.
أما بعد: فإن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: ﴿ياأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا﴾(1).
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ياأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾(2).
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب﴾(3).
وقال سبحانه وتعالى: ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾(4).
وقال سبحانه وتعالى: ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى﴾(5).
أهل السنة أسعد الناس بهؤلاء الآيات وما أشبههن من الأدلة، فهم إن كتبوا كتبوا ما لهم وما عليهم، وإن خطبوا ذكروا ما لهم وما عليهم، يلازمون العدالة مع القريب والبعيد، والعدو والصديق، وإنك إذا نظرت في كتب الجرح والتعديل تجدها غاية من العدالة، يجرحون الرجل إذا كان يستحق الجرح وإن كان رأسا في السنة، ويثنون على المبتدع بما فيه من الخير إذا احتيج إلى ذلك، بخلاف أهل الأهواء فإنهم يثنون على من يوافقهم على بدعهم وإن كان لا يساوي فلسا، ويذمون من خالفهم وإن كان رأسا في الدين، وأعظم المبتدعين إطراء لمن وافقهم هم الرافضة والصوفية، وهكذا في الذم لمن خالفهم، فمن ثم لا يقبل أهل الجرح والتعديل كلام هؤلاء في الرجال، بل لا يقبلون رواية الرافضة.
وإليك ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (ج1 ص59) من «منهاج السنة»: وقد اتفق أهل العلم بالنقل والرواية والإسناد على أن الرافضة أكذب الطوائف، والكذب فيهم قديم، ولهذا كان أئمة الإسلام يعلمون امتيازهم بكثرة الكذب.
قال أبوحاتم الرازي: سمعت يونس بن عبدالأعلى يقول: قال أشهب بن عبدالعزيز: سئل مالك عن الرافضة؟ فقال: لا تكلمهم ولا ترو عنهم، فإنهم يكذبون.
وقال أبوحاتم: حدثنا حرملة. قال: سمعت الشافعي يقول: لم أر أحدا أشهد بالزور من الرافضة.
وقال مؤمل بن إهاب: سمعت يزيد بن هارون يقول: نكتب عن كل صاحب بدعة إذا لم يكن داعية، إلا الرافضة فإنهم يكذبون.
وقال محمد بن سعيد الأصبهاني: سمعت شريكا يقول: أحمل العلم عن كل من لقيت إلا الرافضة فإنهم يضعون الحديث ويتخذونه دينا. وشريك هذا هو شريك بن عبدالله القاضي قاضي الكوفة من أقران الثوري وأبي حنيفة، وهو الذي يقول بلسانه: أنا من الشيعة. وهذه شهادته فيهم.
وقال أبومعاوية: سمعت الأعمش يقول: أدركت الناس وما يسمونهم إلا الكذابين -يعنى أصحاب المغيرة بن سعيد- قال الأعمش: ولا عليكم أن تذكروا هذا فإني لا آمنهم أن يقولوا: إنا أصبنا الأعمش مع امرأة.
وهذه آثار ثابتة قد رواها أبوعبدالله بن بطة(6) في «الإبانة الكبرى» هو وغيره وروى أبوالقاسم الطبراني: كان الشافعي يقول: ما رأيت في أهل الأهواء قوما أشهد بالزور من الرافضة. ورواه أيضا من طريق حرملة، وزاد في ذلك: ما رأيت أشهد على الله بالزور من الرافضة. وهذا المعنى وإن كان صحيحا فاللفظ الأول هو الثابت عن الشافعي، ولهذا ذكر الشافعي ما ذكره أبوحنيفة وأصحابه أنه رد شهادة من عرف بالكذب كالخطابية.
ورد شهادة من عرف بالكذب متفق عليه بين الفقهاء، وتنازعوا في شهادة سائر أهل الأهواء هل تقبل مطلقا أو ترد مطلقا أو ترد شهادة الداعية إلى البدع؟ وهذا القول الثالث هو الغالب على أهل الحديث، لا يرون الرواية عن الداعية إلى البدع ولا شهادته، ولهذا لم يكن في كتبهم الأمهات كالصحاح، والسنن، والمسانيد، الراوية عن المشهورين بالدعاء إلى البدع وإن كان فيها الرواية عمن فيه نوع من بدعة، كالخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، وذلك لأنهم لم يدعوا الرواية عن هؤلاء للفسق كما يظنه بعضهم، ولكن من أظهر بدعته وجب الإنكار عليه، بخلاف من أخفاها وكتمها، وإذا وجب الإنكار عليه كان من ذلك أن يهجر حتى ينتهي عن إظهار بدعته، ومن هجره ألا يؤخذ عنه العلم، ولا يستشهد.
وكذلك تنازع الفقهاء في الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور، منهم من أطلق المنع، والتحقيق أن الصلاة خلفهم لا ينهى عنها لبطلان صلاتهم في نفسها، لكن لأنهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أن يهجروا، وألا يقدموا في الصلاة على المسلمين، ومن هذا الباب ترك عيادتهم، وتشييع جنائزهم، كل هذا من باب الهجر المشروع في إنكار المنكر للنهي عنه.
وإذا عرف أن هذا من باب العقوبات الشرعية علم أنه يختلف باختلاف الأحوال من قلة البدعة وكثرتها، وظهور السنة وخفائها، وأن المشروع هو التأليف تارة، والهجران أخرى، كما كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يتألف أقواما من المشركين، ومن هو حديث عهد بالإسلام، ومن يخاف عليه الفتنة، فيعطى المؤلفة قلوبهم ما لا يعطي غيرهم. وقال في الحديث الصحيح: «إني أعطي رجالا والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، أعطي رجالا لما في قلوبهم من الهلع والجزع، وأدع رجالا لما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم: عمرو بن تغلب». وقال: «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكبه الله في النار على وجهه». أو كما قال.
وكان يهجر بعض المؤمنين، كما هجر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، لأن المقصود دعوة الخلق إلى طاعة الله بأقوم طريق، فيستعمل الرغبة حيث تكون أصلح، والرهبة حيث تكون أصلح، ومن عرف هذا تبين له أن من رد الشهادة والرواية مطلقا من أهل البدع المتأولين، فقوله ضعيف، فإن السلف قد دخلوا بالتأويل في أنواع عظيمة.
ومن جعل المظهرين للبدعة أئمة في العلم والشهادة لا ينكر عليهم بهجر ولا ردع، فقوله ضعيف أيضا، وكذلك من صلى خلف المظهر للبدع والفجور من غير إنكار عليه ولا استبدال به من هو خير منه مع القدرة على ذلك، فقوله ضعيف، وهذا يستلزم إقرار المنكر الذي يبغضه الله ورسوله مع القدرة على إنكاره، وهذا لا يجوز.
ومن أوجب الإعادة على كل من صلى خلف ذي فجور وبدعة فقوله ضعيف، فإن السلف والأئمة من الصحابة والتابعين صلوا خلف هؤلاء وهؤلاء، لما كانوا ولاة عليهم، ولهذا كان من أصول أهل السنة أن الصلاة التي تقيمها ولاة الأمور تصلى خلفهم على أي حالة كانوا، كما يحج معهم، ويغزى معهم، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن العلماء كلهم متفقون على أن الكذب في الرافضة أظهر منه في سائر الطوائف من أهل القبلة، ومن تأمل كتب الجرح والتعديل المصنفة في أسماء الرواة والنقلة وأحوالهم مثل كتب يحيى بن سعيد القطان، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم الرازي، والنسائي، وأبي حاتم بن حبان، وأبي أحمد بن عدي، والدارقطني، وإبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي، ويعقوب بن سفيان الفسوي، وأحمد بن صالح العجلي، والعقيلي، ومحمد بن عبدالله بن عمار الموصلي، والحاكم النيسابوري، والحافظ عبدالغني بن سعيد المصري، وأمثال هؤلاء الذين هم جهابذة ونقاد، وأهل معرفة بأحوال الإسناد، رأى المعروف عندهم الكذب في الشيعة أكثر منهم في جميع الطوائف، حتى إن أصحاب الصحيح كالبخاري لم يرووا عن أحد من قدماء الشيعة مثل: عاصم بن ضمرة، والحارث الأعور، وعبدالله بن سلمة وأمثالهم، مع أن هؤلاء من خيار الشيعة، وإنما يروون عن أهل البيت كالحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وكاتبه عبيدالله بن أبي رافع أو عن أصحاب ابن مسعود كعبيدة السلماني، والحارث بن قيس، أو عمن يشبه هؤلاء، وهؤلاء أئمة النقل ونقاده من أبعد الناس عن الهوى وأخبرهم بالناس وأقولهم بالحق لا يخافون في الله لومة لائم. اهـ? كلام شيخ الإسلام -رحمه الله-.
هذا وبما أنها قد ساءت ظنون المجتمع بالكاتبين والخطباء، بسبب الدعايات الملعونة من الشيوعيين، والبعثيين، والناصريين، والشيعة، فإذا رأوا الرجل يخطب محذرا من الرافضة قالوا: هذا مدفوع من قبل البعثيين، فإني أذكر إخواني المسلمين بقول الله عز وجل: ﴿ياأيها الذين ءامنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم﴾(7).
وقال الإمام البخاري -رحمه الله- (ج10 ص484): حدثنا عبدالله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تناجشوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا».
الذي لا يعلم أن أمريكا وروسيا تريدان القضاء على الإسلام والمسلمين فهو مغفل أشبه بالبهائم، فكيف يرجى منهما أن يساعدا الدعاة إلى الله وهم رءوس المسلمين وحماة الإسلام، وقل أن يدخل أعداء الإسلام بلدة إلا ويبدءون بحصاد العلماء والمفكرين الإسلاميين، بل يوعزون إلى الحكومات التي تطيعهم بالقضاء على الدعوات، ويوهمونها أنها تشكل خطرا على المجتمع، وكذبوا، فالدعاة إلى الله دعاة إلى الله وليسوا دعاة فتن وإراقة للدماء، وإنما هم دعاة إصلاح يرون عملهم الذي يقومون به أرفع من الكراسي والمناصب، كما يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين﴾(8).
ويرون المناصب والمسلمون على هذه الحالة عذابا على أصحابها، لكثرة الخيانات والطمع والانقلابات، ولا يرون أن أحدا يشارك الدعاة إلى الله الجامعين بين العلم والعمل في الخير الذي هم فيه إلا من وفق لمثل ما هم فيه: ﴿يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات﴾(9).
فالعلم عندنا أرفع من الملك والرئاسة، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
هذا وأما حكام المسلمين نسأل الله أن يصلحهم فإنهم في واد والدعاة إلى الله في واد، الحكام يهمهم المحافظة على كراسيهم، والدعاة إلى الله يهمهم إصلاح المجتمع والدفاع عن الإسلام، ويتقربون إلى الله بحماية الدين والذب عن حياضه أن يلوثها أعداء الإسلام، ويسألون الله أن يصلح حكام المسلمين فإنهم قد ابتلوا بالدعاة إلى الله، وابتلي بهم الدعاة إلى الله، ولا يصلح الجميع إلا التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولا تزول النفرة التي بينهم إلا بالاعتصام بكتاب الله، وتحكيم شرع الله، وفق الله الجميع لذلك.
وإياك إياك أن تظن أني ألفت هذا الكتاب من أجل صدام البعثي الملحد، فمعاذ الله، فحزب البعث كافر، وما كان الدعاة إلى الله ليكونوا آلة يوما من الدهر لأعداء الله، ولكني ألفته غضبا لله وتحذيرا لإخواني أهل السنة من المزالق، وسيأتي إن شاء الله بيان السبب الذي ألفته من أجله.
والدعاة إلى الله وإلى كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مبتلون بالاتهامات إذا خالفوا الناس وابتغوا الدليل، وإليك ما قاله الإمام الشاطبي -رحمه الله- في «الاعتصام» متوجعا من أهل عصره، بسبب مخالفته الناس فيما يراه حقا. قال -رحمه الله- (ج1 ص27): وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة، فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه، كما يعزي إلي بعض الناس بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة، وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء.
وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة -رضي الله عنهم- بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص إذ لم يكن ذلك شأن أحد من السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب، وقد سئل (أصبغ) عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين فقال: هو بدعة ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة. قيل له: فدعاؤه للغزاة والمرابطين؟ قال: ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه، وأما أن يكون شيئا يصمد له في خطبته دائما فإني أكره ذلك. ونص أيضا عزالدين بن عبدالسلام على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة.
وتارة أضاف إلى القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم.
وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم(10) لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك، وللمسألة بسط في كتاب «الموافقات».
وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم.
وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها -وهي الناجية- ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. وسيأتي بيان ذلك بحول الله.
وكذبوا علي في جميع ذلك أو وهموا والحمد لله على كل حال، فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبدالرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه إذ حكى عن نفسه فقال: عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقا أو مخالفا دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك -كما يفعله أهل هذا الزمان- سماني موافقا، وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفا، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب بخلاف ذلك وارد سماني خارجيا، وإن قرأت عليه حديثا في التوحيد سماني مشبها، وإن كان في الرؤية سماني سالميا، وإن كان في الإيمان سماني مرجئيا، وإن كان في الأعمال سماني قدريا، وإن كان في المعرفة سماني كراميا، وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبيا، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيا، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهريا، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنيا، وإن أجبت بتأويل سماني أشعريا، وإن جحدتهما سماني معتزليا، وإن كان في السنن مثل القراءة سماني شفعويا، وإن كان في القنوت سماني حنفيا، وإن كان في القرآن سماني حنبليا، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار -إذ ليس في الحكم والحديث محاباة- قالوا: طعن في تزكيتهم.
ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرءون علي من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ما يشتهون من هذه الأسامي، ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئا، وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم. اهـ
أما السبب الذي حملني على تأليف هذا الكتاب فهو أني لما انتهيت من كتاب «إرشاد ذوي الفطن لإبعاد غلاة الروافض من اليمن» أردت أن أستريح من الكتابة يوما أو يومين، ثم أعود إلى بحثي الذي أنا مستمر فيه وهو «الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين(11)» فأخذت الجزء الأول من «العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» للإمام تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي المكي -رحمه الله-، فقرأت الباب الثامن والثلاثين في ذكر شيء من الحوادث المتعلقة بمكة في الإسلام، وها أنا أسوق الباب كله لتشاركني فيما أفزعني وحملني على تأليف هذا الكتاب.
قال -رحمه الله- (ج1 ص183):
الباب الثامن والثلاثون:
في ذكر شيء من الحوادث المتعلقة بمكة في الإسلام
لا ريب في كثرة الأخبار في هذا المعنى وأكثر ذلك خفي علينا لعدم العناية بتدوينه في كل وقت، وقد سبق مما علمناه أمور كثيرة في مواضع من هذا الكتاب، ويأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذلك بعد هذا الباب.
والمقصود ذكره في هذا الباب: أخبار تتعلق بالحجاج لها تعلق بمكة، أو باديتها، وحج جماعة من الخلفاء والملوك في حال ولايتهم ومن خطب له بمكة من الملوك وغيرهم في خلافة بني العباس وما جرى بسبب الخطبة بمكة بين ملوك مصر والعراق، وما أسقط من المكوسات المتعلقة بمكة.
فمن الأخبار المقصود ذكرها هنا: أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- حج بالناس سنة اثنتي عشرة من الهجرة.
ومنها: أن الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حج بالناس في جميع خلافته إلا السنة الأولى منها.
ومنها: أن ذا النورين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- حج بالناس في جميع خلافته إلا في السنة الأولى والأخيرة.
ومنها: أن في سنة أربعين من الهجرة، وقف الناس بعرفة في اليوم الثامن من ذي الحجة وضحوا في اليوم التاسع، وليس كل إنسان اتفق له ذلك، والذين اتفق لهم ذلك طائفة كانوا مع المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-.
ومنها: أن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- حج بالناس سنتين.
ومنها: أن عبدالله بن الزبير -رضي الله عنهما- حج بالناس في جميع خلافته إلا السنة الأخيرة منها، وهي سنة اثنتين وسبعين لحصر الحجاج بن يوسف الثقفي له فيها، وحج بالناس سنة ثلاث وستين، فيكون حجه بالناس تسعا بتقديم التاء.
ومنها: أن عبدالملك بن مروان حج بالناس سنتين.
ومنها: أن الوليد بن عبدالملك حج بالناس سنتين على ما قيل.
ومنها: أن سليمان بن عبدالملك حج بالناس مرة، وكذلك أخوه هشام ابن عبدالملك.
ومنها: أن في سنة تسع وعشرين ومائة وافى بعرفة أبوحمزة الخارجي على غفلة من الناس فخافوا منه فسأله عامل مكة في المسألة، فوقع الاتفاق على أنهم جميعا آمنون حتى ينقضي الحج، ثم استولى -بغير قتال- أبوحمزة على مكة بعد الحج، لفرار عاملها عنها.
ومنها: أن أبا جعفر المنصور ثاني الخلفاء العباسيين حج بالناس أربع سنين، ورام الحج في سنة ثمان وخمسين فما ناله لموته ببئر ميمون ظاهر مكة.
ومنها: أن المهدي بن المنصور العباسي حج بالناس سنة ستين ومائة. وقيل: إنه حج بالناس سنة أربع وستين أيضا.
وفي حجته الأولى: أنفق في الحرمين أموالا عظيمة. يقال: إنها ثلاثون ألف ألف درهم وصل بها من العراق، وثلاثمائة ألف دينار وصلت إليه من مصر، ومائتا ألف وصلت إليه من اليمن، ومائة ألف ثوب وخمسون ألف ثوب.
ومنها: أن الرشيد هارون بن المهدي العباسي حج بالناس تسع حجج -بتقدم التاء- ولم يحج بعده خليفة من العراق، إلا أن الذهبي ذكر في «العبر» في أخبار سنة اثنتي عشرة ومائتين: أن المأمون بن هارون الرشيد حج في هذه السنة، ولم أر ذلك لغيره والله أعلم. وفرق الرشيد في حجاته أموالا كثيرة جدا في الحرمين.
ومنها: أن في سنة تسع وتسعين ومائة وقف الناس بعرفة بلا إمام، وصلوا بلا خطبة، لفرار أمير مكة عنها متخوفا من حسين الأفطس العلوي، وكان وصوله إلى مكة في آخر يوم عرفة، وبها وقف ليلا.
ومنها: أن في سنة مائتين من الهجرة نهب الحجاج بستان ابن عامر وأخذت كسوة الكعبة ثم استنقذها الجلودي مع كثير من الأموال المنهوبة وبستان ابن عامر هو بطن نخلة، على ما ذكر أبوالفتح ابن سيد الناس عند ذكر سرية عبدالله بن جحش -رضي الله عنه- إلى نخلة.
ومنها: أن في سنة إحدى وخمسين ومائتين لم يقف الناس بعرفة لا ليلا ولا نهارا، لأن إسماعيل بن يوسف العلوي وافى الموقف بعرفة في يومها. وقتل من الحجاج نحو ألف ومائة وسلب الناس، وهرب الناس إلى مكة.
ومنها: أن في سنة خمس وتسعين ومائتين وقع بمنى قتال بين الأجناد وبين عج بن حاج أمير مكة لطلبهم جائزة بيعة المقتدر، فقتل منهم جماعة، وفر الناس إلى بستان ابن عامر.
ومنها: أن في سنة سبع عشرة وثلاثمائة وافى مكة أبوطاهر القرمطي فأسرف في قتل الحجاج وأسرهم، مع هتكه لحرمة الكعبة. وذلك أنه قتل في المسجد الحرام نحو ألف وسبعمائة من الرجال والنساء وهم متعلقون بالكعبة وردم بهم زمزم وفرش بهم المسجد وما يليه. وقتل في سكك مكة وشعابها من أهل خراسان والمغاربة وغيرهم زهاء ثلاثين ألفا، وسبى من النساء والصبيان مثل ذلك، وقد بطل الحج من العراق بسبب القرمطي ثلاث سنين متوالية من هذه السنة، وبطل بعدها سنين كثيرة في عشر الثلاثين، وفي عشر الأربعين، وأوضحنا هذه السنين في أصل هذا الكتاب وليس كل البطالة فيها لأجل القرمطي.
ومنها: أن في سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة أو في التي قبلها جرى قتال بين أصحاب ابن طغج والعراقيين بسبب الخطبة بمكة، وجرى مثل ذلك في سنة اثنتين وأربعين، وفي سنة ثلاث وأربعين.
ومنها: أعني سنة ثلاث -خطب بمكة والحجاز لمعز الدولة ولوالده عز الدولة بختيار، وبعدهم لابن طغج. وذكر بعضهم أن في هذه السنة منع أصحاب معز الدولة أصحاب الأخشيد من الصلاة بمنى والخطبة، وأن أصحاب الأخشيد منعوا أصحاب معز الدولة الدخول إلى مكة والطواف. انتهى بالمعنى.
ومنها: أن كافور الأخشيدي صاحب مصر كان يدعى له على المنابر بمكة والحجاز أجمع.
ومنها: أن في سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة خطب بالحرمين واليمن لصاحب مصر المعز العبيدي وقطعت خطبة بني العباس، وفيها فرق قائد من جهته أموالا عظيمة في الحرمين.
ومنها: أن في سنة تسع وخمسين وثلاثمائة خطب بمكة للقرامطة الهجرتين مع المطيع العباسي قطعت خطبة المعز من مكة وخطب له بالمدينة، وخطب للمطيع بظاهرها ثم خطب للمعز بالحرمين في الموسم سنة ثلاث وستين.
ومنها: أن في سنة خمس وستين خطب بالحرمين لصاحب مصر العزيز بن المعز العبيدي وضيق جيشه بالحصار فيها على أهل مكة، ودامت الخطبة له ولولده ولولد ولده، ولولد ولد ولده نحو مائة سنة كما سيأتي مبينا إن شاء الله تعالى.
ومنها: أن في سنة ست وستين وثلاثمائة حجت جميلة بنت ناصر الدولة ابن حمدان حجا يضرب به المثل في التجمل وأفعال البر، لأنه كان معها على ما قيل: أربعمائة كجاوة فلم يدر في أيها هي، لتساويها في الحسن والزينة، ونثرت على الكعبة لما رأتها. -وقيل: لما دخلتها- عشرة آلاف دينار، وأغنت المجاورين بالحرمين.
ومنها: أن في سنة أربع عشرة وأربعمائة حصل في الحجاج قتل ونهب بمكة وبظاهرها، وسبب ذلك: أن بعض الملاحدة تجرأ على الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بدبوس فقتل وقطع وأحرق وقتل ممن اتهم بمعاونته جماعة وكثر النهب في المغاربة والمصريين وغيرهم، وهذه الحادثة أبسط من هذا في أصله، وذكرها الذهبي في سنة ثلاث عشرة ونقل ذلك عن غيره والله أعلم.
ومنها: أن في سنة خمس وخمسين وأربعمائة: حج علي بن محمد الصليحي صاحب اليمن وملك فيها مكة، وفعل فيها أفعالا حميدة من العدل والإحسان ومنع المفسدين، فآمن الناس أمنا لم يعهدوه ورخصت الأسعار لأمره بجلب الأقوات وكثر الثناء عليه.(12)
ومنها: أن في سنة اثنتين وستين وأربعمائة: أعيدت الخطبة العباسية بمكة وخطب بها للقائم عبدالله العباسي ثم للسلطان البارسلان السلجوقي.
وذكر ابن كثير ما يقتضي أن الخطبة العباسية أعيدت بمكة في سنة سبع وخمسين.
وذكر بعض مشايخنا ما يقتضى أن ذلك وقع في سنة ثمان وخمسين وأربعمائة.
ومنها: أن في سنة سبع وستين أعيدت الخطبة بمكة لصاحب مصر المستنصر العبيدي ثم خطب للمقتدر العباسي بمكة في ذي الحجة سنة ثمان وستين. ثم أعيدت الخطبة لصاحب مصر في سنة سبعين، ثم أعيدت الخطبة للمقتدر في سنة اثنين وسبعين.
ومنها: أنه خطب بمكة للسلطان محمود بن السلطان ملكشاه السلجوقي في سنة خمس وثمانين وأربعمائة.
ومنها: أنه خطب في الحرمين لأخيه السلطان سنجر بن السلطان ملكشاه السلجوقي.
ومنها: أن في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة: نهب الحجاج العراقيون وهم يطوفون ويصلون في المسجد الحرام لوحشة كانت بين أمير الحاج العراقي في نظر الخادم، وأمير مكة هاشم بن فليتة.
ومنها: أن السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب دمشق وغيرها حج في سنة ست وخمسين وخمسمائة، ثم خطب له بمكة بعد استيلاء المعظم توران شاه بن أيوب أخي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب على اليمن، واستيلاؤه عليه كان في سنة ثمان وستين وخمسمائة، وقيل: في سنة تسع وستين وخمسمائة.
ومنها: أن في سنة سبع وخمسين وخمسمائة نهب أهل مكة للحجاج العراقيين نحو ألف جمل لفتنة كانت بين الفريقين، قتل فيها جماعة منهما وعاد جماعة من الحجاج قبل تمام حجهم.
ومنها: أن في سنة إحدى وستين وخمسمائة أعفي الحجاج من تسليم المكس كرامة لعمران بن محمد بن الذريع اليامي الهمداني صاحب عدن لوصول تابوته فيها إلى مكة من عدن، وإنما حمل إلى مكة لشغفه في حياته بالحج فأحضر في مشاعره وصلي عليه خلف المقام ودفن بالمعلاة.
ومنها: أن الحجاج مكثوا بعرفة إلى الصباح خوفا من فتنة كانت بين عيسى بن فليتة -أمير مكة- وأخيه مالك بن فليتة وذلك في سنة خمس وستين وخمسمائة، وبات الحجاج العراقيون بعرفة أيضا في سنة سبعين وخمسمائة، وهذا لأنهم إنما وصلوا إلى عرفة في يومها.
ومنها: أن في سنة إحدى وسبعين وخمسمائة لم يوف أكثر الحجاج العراقيين المناسك لأنهم ما باتوا بمزدلفة وما نزلوا بمنى، ونزلوا الأبطح في يوم النحر، وسبب ذلك فتنة عظيمة كانت بين طاشتكين أمير الحاج العراقي وبين مكثر بن عيسى بن فليتة أمير مكة ظفر فيها طاشتكين وأمر بهدم القلعة التى كانت بمكة لمكثر على أبي قبيس، ونهبت أموال كثيرة.
ومنها: أن في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة: أبطل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب المكس المأخوذ من الحجاج في البحر إلى مكة على طريق عبدان، وكان ذلك معلوما لأمير مكة، فعوضه السلطان صلاح الدين عن ذلك ألفي دينار وألف أردب قمح، وإقطاعات بصعيد مصر وجهة اليمن، وقيل: إنه عوضه عن ذلك مبلغ ثمانية آلاف أردب قمح يحمل إليه كل عام إلى ساحل جدة. والله أعلم. انتهى
وكان يخطب بمكة للسلطان صلاح الدين المذكور بعد مكثر بن عيسى بن فليتة أمير مكة، وما علمت ابتداء وقت الخطبة له بمكة والله أعلم.
ومنها: أن جماعة من الحجاج وهم أربعة وثلاثون نفرا ماتوا في الكعبة المعظمة من الزحام، في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة.
ومنها: أن في يوم عرفة من سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة تحارب بعض الحجاج الشاميين والعراقيين في عرفة، فغلب العراقيون الشاميين، وقتلوا منهم جماعة ونهبوهم.
ومنها: أن في سنة ثمان وستمائة حصل في الحجاج العراقيين قتل ونهب فاحش، حتى قيل: إنه أخذ من المال والمتاع وغيره ما قيمته ألفا ألف دينار. حكى ذلك أبوشامة، وكانت هذه البلية بمكة ومنى، وهي بمنى أعظم. وذكر ابن محفوظ: أنه كان بين العراقيين وأهل مكة فتنة بمنى في سنة سبع وستمائة، ولم أر ما يدل لذلك. والله أعلم.
ومنها: أن صاحب دمشق المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب حج في سنة إحدى عشرة وستمائة، وتصدق فيها بالحرمين صدقة كبيرة.
ومنها: أنه كان يخطب بمكة لوالده الملك السلطان العادل أبي بكر بن أيوب أخي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام.
ومنها: أن في سنة سبع عشرة وستمائة: منع صاحب مكة حسن بن قتادة الحجاج العراقيين من دخول مكة، ثم أذن لهم في ذلك، بعد قتل أصحابه لأمير الحاج العراقي اقباش الناصري مملوك الخليفة الناصر لدين الله، لاتهامه بأنه يريد أن يولي راجح بن قتادة أخا حسن مكة عوضه.
وكان حسن متوليا لها بعد أبيهما قتادة، وفيها مات قتادة ونصب رأس اقباش بالمسعى عند دار العباس، ثم دفن مع جسده بالمعلاة.
ومنها: أن جماعة من الحجاج ماتوا بالمسعى من الزحام في سنة سبع عشرة وستمائة.
ومنها: أن المسعود صاحب اليمن حج من اليمن في سنة تسع عشرة وستمائة، وبدا منه ما لا يحمد، من رميه حمام مكة بالبندق فوق زمزم، ومن منعه إطلاع علم الخليفة الناصر العباسي جبل الرحمة بعرفة، وقيل: إنه أذن في ذلك اليوم قبيل الغروب، وغير ذلك من الأمور المنسوبة إليه.
وذكر ابن الأثير ما يقتضى أنه حج سنة ثمان عشرة والله أعلم. وسبق في الباب قبله أنه ولي مكة وكان حال الناس بها حسنا في ولايته لهيبته، وإليه ينسب الدرهم المسعودي المتعامل به بمكة.
ومنها: أنه كان يخطب بها لوالده الملك الكامل ناصر الدين أبي المعالي محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب صاحب مصر، ولعل ذلك بعد ملك ولده المسعود لمكة، والله أعلم.
ومنها: أن الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن: خطب له بمكة في سنة تسع وعشرين وستمائة.
وفيها: ولي مكة بعد مبايعته بالسلطنة في بلاد اليمن في هذه السنة. وحج الملك المنصور المذكور في سنة إحدى وثلاثين وستمائة على النجب حجا هينا، وحج أيضا في سنة تسع وثلاثين وستمائة، وصام رمضان في هذه السنة بمكة.
ومنها: أن في سنة سبع وثلاثين وستمائة خطب بمكة لصاحب مصر الصالح أيوب بن الكامل.
وممن خطب له بمكة من بني أيوب: صاحب مصر الأشرف موسى بن الناصر يوسف بن المسعود أقسيس بن الكامل في سنة اثنين وخمسين وستمائة. وفيها خطب معه لأتابكة المعز أيبك التركماني الصالحي.
وفيها: تسلطن المعز المذكور في شعبان. وممن خطب له بمكة من ملوك مصر: الظاهر بيبرس الصالحي، ومن بعده من ملوك مصر إلى تاريخه إلا المنصور عبدالعزيز بن الظاهر برقوق لكونه لم يصل له نجاب، وأشك في الخطبة بمكة لابني الظاهر بيبرس والعادل كتبغا، والمنصور لاجين، وأكبر ظني أنه خطب لهم. والله أعلم.
وكان للناصر محمد بن قلاوون من نفوذ الكلمة بمكة، واستبداده بأمر الولاية فيها ما لم يكن لمن قبله من ملوك الترك بمصر، واستبد من بعده من ملوك مصر بالولاية بمكة.
ومنها: أن في سنة تسع وثلاثين وستمائة أسقط السلطان الملك المنصور صاحب اليمن عن مكة سائر المكوسات والجنايات والمظالم، وكتب بذلك مربعة وجعلت قبالة الحجر الأسود، ودامت هذه المربعة إلى أن قلعها ابن المسيب لما ولي مكة في سنة ست وأربعين وستمائة، وأعاد الجنايات والمكوسات بمكة.
ومنها: على ما وجدت بخط الميورقي لم يحج سنة خمس وخمسين وستمائة من الآفاق ركب سوى حجاج الحجاز. انتهى.
ومنها: أن الملك المظفر يوسف بن المنصور صاحب اليمن حج في سنة تسع وخمسين وستمائة، وغسل الكعبة بنفسه وطيبها، وما كساها بعد انقضاء الخلافة من بغداد ملك قبله، وقام أيضا بمصالح الحرم وأهله، وأوسع في الصدقة حين حج، ومن أفعاله الجميلة بمكة أنه نثر على الكعبة الذهب والفضة وكان يخطب له بمكة في غالب سلطنته، وخطب من بعده لملوك اليمن من ذريته بعد الخطبة لصاحب مصر.
ومنها: على ما قال الميورقي: لم ترفع راية لملك من الملوك سنة ستين وستمائة. كسنة خمس وخمسين وستمائة. انتهى منقولا من خطه، وأراد بذلك وقت الوقوف بعرفة.
ومنها: أن الحجاج العراقيين توجهوا إلى مكة في سنة ست وستين وستمائة، وما علمت لهم بتوجه لهم قبل ذلك من بغداد بعد غلبة التتار عليها.
ومنها: أن الملك الظاهر بيبرس الصالحي صاحب مصر حج سنة سبع وستين وستمائة، وغسل الكعبة وأمر بتلبيسها في كل سنة، وأحسن كثيرا إلى أميري مكة بسبب ذلك، وعظمت صدقته في الحرمين.
ومنها: أن العراقيين حجوا من بغداد في سنة تسع وستين وستمائة ولم يحج فيها من مصر أحد، وحج من العراق ركب كبير في سنة ثمان وثمانين وستمائة.
ومنها: أن الحجاج ازدحموا في خروجهم إلى العمرة من باب المسجد الحرام المعروف بباب العمرة، فمات في الزحمة منهم جمع كبير يبلغون ثمانين نفرا على ما قيل، وذلك بعد الحج من سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
ومنها: أن في سنة ثلاث وثمانين وستمائة صد الحجاج عن دخول مكة، ثم دخلوها هجما في يوم التروية بعد ثقبهم السور، وإحراقهم لباب المعلاة وفرار أبي نمى أمير مكة منها، وهو الصاد لهم لوحشة كانت بينه وبين أمير الحاج المصري ثم اصطلحا، وقيل في سبب هذه الفتنة غير ذلك، والله أعلم.
ومنها: أن الحاج وأهل مكة تقاتلوا في المسجد الحرام، فقتل من الفريقين على ما قيل فوق أربعين نفرا، وشهر فيها في المسجد الحرام من السيوف نحو عشرة آلاف، وانتهبت الأموال وتثبت أبو نمى في الأخذ، ولو قصد الجميع لتم له ذلك. ذكر هذه الحادثة على ما ذكرناه الشيخ تاج الدين بن الفركاح، وذلك في سنة تسع وثمانين وستمائة.
ومنها: أن الخليفة بمصر الملقب بالحاكم أحمد العباسي حج في سنة سبع وتسعين وستمائة، وهو أول خليفة عباسي حج من مصر، وثاني خليفة عباسي بعد المستعصم. ونسبته تتصل بالمسترشد، فإنه أحمد بن أبي علي بن علي بن أبى بكر المسترشد، وأعطاه لاجين المنصوري صاحب مصر سبعمائة ألف درهم لأجل حجه.
ومنها: أن صاحبي مكة حميضة ورميثة ابني أبي نمى: أسقطا بعض المكوس في سنة أربع وسبعمائة، وفي التي قبلها.
ومنها: أن الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر: حج في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ومعه نحو أربعين أميرا، وستة آلاف مملوك على الهجن ومائة فرس، وحج أيضا في سنة تسع عشرة وسبعمائة، وفي سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة. وكان معه لما حج في سنة تسع عشرة وسبعمائة نحو خمسين أميرا، وأكثر فيها من فعل المعروف في الحرمين. وفيها: غسل الكعبة بيده. وكان معه لما حج في سنة اثنين وثلاثين نحو سبعين أميرا وتصدق فيها بعد حجه.
ويقال: إن خطبته قطعت من مكة وخطب عوضه بها لأبي سعيد بن خربندا ملك العراقيين بأمر حميضة بن أبي نمى بعد أن رجع من العراق في آخر سنة ست عشرة وسبعمائة، أو في التي بعدها. والله أعلم.
ومنها: أن الحجاج في سنة عشرين وسبعمائة صلوا خمس صلوات بمنى أولها الظهر من يوم التروية وآخرها الصبح من يوم عرفة، وساروا إليها بعد طلوع الشمس، وأحيوا هذه السنة بعد تركها، وفعل مثل ذلك الشاميون.
وفي سنة سبع وعشرين وسبعمائة، شهد الموقف بعرفة عالم عظيم من جميع البلاد، وكان مع العراقيين محمل عليه حلي من الجوهر واللؤلؤ والذهب ما قوم بمائتي ألف دينار وخمسين ألف دينار من الذهب المصرى. ذكر ذلك الحافظ علم الدين البرزالي.
ومنها: أن الناصر محمد بن قلاوون صاحب مصر أسقط المكس المتعلق بالمأكول بمكة وعوض أميرها عطيفة بن أبي نمى عن ذلك ثلثي دماميل من صعيد مصر وذلك سنة اثنين وعشرين وسبعمائة.
ومنها: أن ملك التكرور موسى حج في سنة أربع وعشرين وسبعمائة في أزيد من خمسة عشر ألف تكروريا.
ومنها: أن العراقيين حجوا في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ومعهم تابوت جوبان نائب السلطنة بالعراقيين الذي أجرى عين بازان إلى مكة وأحضر تابوته الموقف بعرفة وطيف به حول الكعبة ليلا.
ومنها: أن في يوم الجمعة الرابع عشر من ذي الحجة سنة ثلاثين وسبعمائة قتل أمير الحاج المصريين الدمر وابنه خليل وغيرهما، ونهبت للناس أموال كثيرة.
وذكر النويري في «تاريخه» أن الخبر بهذه الحادثة وقع بمصر في يوم وقوعها بمكة.
ومنها: أن في سنة ثلاثين وسبعمائة حج العراقيون بفيل بعث به ملكهم أبوسعيد بن خربندا فحضروا به المواقف كلها، ومضوا به إلى المدينة فمات بالفرش الصغير بقرب المدينة بعد أن لم يستطع التقدم إليها خطوة.
ومنها: أن صاحب اليمن الملك المجاهد علي بن الملك المؤيد داود بن الملك المظفر حج في سنة اثنين وأربعين وسبعمائة، فأطلع علمه جبل عرفات وكان بنو حسن في خدمته حتى انقضى الحج.
وحج الملك المجاهد أيضا في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة وقبض عليه المصريون بمنى في النفر الأول بعد حرب كان بينهم وبين بعض عسكره وتوقف هو عن الحرب رعاية لحرمة الزمان والمكان، وسلم إليهم نفسه بأمان فساروا به إلى مصر فأكرمه متوليها الناصر حسن بن محمد بن قلاوون ورده إلى بلاده. ثم رد من الدهناء من وادي ينبع، واعتقل بالكرك ببلاد الشام، ثم أطلق وتوجه إلى مصر، وتوجه منها على طريق عيذاب إلى اليمن فوصل في آخر سنة اثنين وخمسين وسبعمائة.
ومنها: أن الحجاج وأهل مكة تحاربوا كثيرا بعرفة في يومها من سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، فقتل من الترك نحو ستة عشر ومن بني حسن ناس قليل، ولم يتعرض للحاج بنهب، وسافر الحاج أجمع في النفر الأول، وسلك أهل مكة في نفرهم بعد عرفة طريق البئر المعروفة بالمظلمة فعرفت هذه الوقعة عندهم بسنة المظلمة.
ومنها: أن الحجاج العراقيين كانوا كثيرا في سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. وكان لهم أحد عشر سنة لم يحجوا من العراق ولم يحجوا أيضا سنة خمس وخمسين وسبعمائة، وحجوا بعد ذلك خمس سنين متوالية، وكانوا كثيرين جدا في سنة سبع وخمسين. وتصدق فيها بعض الحجاج من العجم على أهل الحرمين بذهب كثير. وفي سنة ثمان وخمسين كان مع الحجاج العراقيين محملان، واحد من بغداد، وواحد من شيراز.
ومنها: أن في آخر جمادى الآخرة أو في رجب من سنة ستين وسبعمائة أسقط المكس المأخوذ من المأكولات بمكة، بعد وصول العسكر المجهز من مصر إلى مكة لتأييد أميرها مسند بن رميثة، ومحمد بن عطيفة ودام هذا الحال إلى رحيل الحاج في سنة إحدى وستين وسبعمائة.
ومنها: أن في سنة ست وستين وسبعمائة أسقط المكس المأخوذ بمكة في المأكولات جميعا وعوض صاحب مكة عن ذلك بمائة وستين ألف درهم من بيت المال وألف أردب قمح.
ومنها: أن في أثناء عشر السبعين -بتقديم السين- وسبعمائة: خطب بمكة للسلطان شيخ أويس بن الشيخ حسن الكبير صاحب بغداد وغيرها بعد أن وصلت منه قناديل حسنة للكعبة وهدية طائلة إلى أمير مكة عجلان وهو الآمر لخطيب مكة بالخطبة له. ثم تركت الخطبة لصاحب العراق. وما عرفت وقت ابتداء تركها.
ومنها: أن الحجاج المصريين قلوا كثيرا جدا في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة، لرجوع جزيلهم من عقبة أيلة إلى مصر بسبب قيام الترك بها على صاحب مصر الملك الأشرف شعبان بن حسين وكان قد توجه فيها للحج في أبهة عظيمة، وكان من خبره أنه رجع إلى مصر واختفى بها، لأن الذين تركهم بها قاموا عليه بمصر وسلطنوا ولده عليا ولقبوه بالمنصور وظفر به بعد ذلك فأذهبت روحه وفاز بالشهادة في ثامن ذي القعدة منها.
ومنها: أن في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة: حج بالناس من اليمن في البر -مع محمل جهزه صاحب اليمن- الملك الأشرف إسماعيل بن الملك الأفضل العباس بن المجاهد وجهز الملك الأشرف أيضا محملا إلى مكة في سنة ثمانمائة، وحج الناس معه أيضا، وأصاب بعضهم شدة من العطش بقرب مكة ومات بها جماعة ولم يصل بعدها إلى مكة محمل من اليمن. وكان محمل اليمن منقطعا عن مكة فيما علمت نحو ثمانين سنة، قبل سنة إحدى وثمانين وسبعمائة.
ومنها: أن في يوم التروية من سنة سبع وتسعين وسبعمائة حصل في المسجد الحرام جفلة بسبب منافرة حصلت من بعض أهل مكة والحجاج، فثارت الفتنة فنهبت أموال كثيرة للحجاج وقتل بعضهم وتعرض الحرامية للحجاج فنهبوهم في طريق عرفة عند مأزميها، وغير ذلك ونفر الحاج أجمع في النفر الأول.
وفيها: وصل مع الحجاج الحلبيين محمل على صفة المحامل ولم يعهد ذلك إلا في سنة سبع وثمانين وسبعمائة ولم يعهد ذلك قبلها.
وفيها: حج العراقيون في غاية القلة بمحمل على العادة بعد انقطاعهم مدة يسيرة.
ومنها: أن في سنة ثلاث وثمانمائة لم يحج أحد من الشام على طريقتهم المعتادة، لما أصاب أهل دمشق من القتل والعذاب والأسر وإحراق دمشق، والفاعل لذلك أصحاب تيمورلنك صاحب الشرق. ودام انقطاع الحجاج الشاميين من هذه الطريق سنتين ثم حجوا منها بمحمل على العادة في سنة ست وثمانمائة، وفي سنة سبع. وانقطعوا على الحج منها في سنة ثمان وثمانمائة ثم حجوا منها بمحمل على العادة في سنة تسع وثمانمائة واستمر ذلك إلى تاريخه.
ومنها: أن الحجاج العراقيين حجوا من بغداد بمحمل على العادة في سنة سبع وثمانمائة بعد انقطاعهم عن الحج تسع سنين -بتقديم التاء- متوالية والذي جهزهم في هذه السنة متوليها من قبل تيمورلنك، وفي شعبان منها مات تيمورلنك. وحج العراقيون من هذه الطريق بعد هذه السنة خمس سنين متوالية بمحمل على العادة ثم انقطعوا منها ثلاث سنين متوالية. أولها سنة ثلاث عشرة وثمانمائة بموت سلطان بغداد أحمد بن أويس في هذه السنة مقتولا، وهو الذي جهز الحجاج من بغداد في بعض السنين السابقة بعد سنة سبع وثمانمائة، ثم حج الناس من بغداد بمحمل على العادة سنة ست عشرة وثمانمائة، وفي أربع سنين متوالية بعدها، ولم يحجوا من بغداد في سنة إحدى وعشرين وثمانمائة ولا فيما بعدها. والذي جهزهم في هذه السنين متولي بغداد من قبل قرا يوسف التركاني وهو المنتزع الملك من أحمد بن أويس.
ومنها: أن الحجاج المصريين غير قليل منهم تخلفوا عن زيارة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لمبادرة أميرهم بيسق بالمسير إلى مصر متخوفا من أن يلحقه أحد من أمراء الشام فيما بين عقبة أيلة ومصر، فإنه كان قبض بمكة على أمير الركب الشامي في موسم هذه السنة وهى سنة عشرة وثمانمائة.
وفيها: نفر الحاج أجمع في النفر الأول.
ومنها: أن في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة حصل في الحجاج المصريين قتل ونهب وتعدى النهب إلى غيرهم، ومعظم النهب وقع في حال توجه الناس إلى عرفة، وفي ليلة النحر بمنى عقرت جمال كثيرة وعند مأزمي عرفة والفاعل لذلك جماعة من غوغاء العرب. والذي جرأهم على ذلك أن صاحب مكة السيد حسن بن عجلان -رحمه الله تعالى- لم يحج في هذه السنة وإنما لم يحج فيها لوحشة كانت بينه وبين أمير الركب المصري بيسق فإنه أعلن للناس في الينبوع أن صاحب مكة معزول وأنه يريد محاربته. ثم إن صاحب مصر الناصر فرج منعه من حرب صاحب مكة، وأعاده وأعاد بنيه إلى ولايتهم ولولا أمر صاحب مكة بالكف عن أذى الحاج لكان أكثرهم رفات