قبل أن نتكلم على هذا الملحد، نتكلم عن الطائفة التي ينتسب إليها مختصرا لذلك من «الفرق بين الفرق» للبغدادي قال -رحمه الله- ص(265): الفصل السابع عشر من فصول هذا الباب في ذكر الباطنية وبيان خروجهم عن جميع فرق الإسلام.
اعلموا أسعدكم الله أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس عليهم، بل أعظم من مضرة الدهرية، وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم(1) من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان لأن الذين ضلوا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم الى يومنا أكثر من الذين يضلون بالدجال في وقت ظهوره، لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يوما، وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر.
إلى أن قال -رحمه الله-: وذكر أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، ولم يجسروا على إظهاره خوفا من سيوف المسلمين، فوضع الأغمار منهم أساسا من قبلها، منهم صار في الباطن إلى تفصيل أديان المجوس، وتأولوا آيات القرآن وسنن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- على موافقة أساسهم.
وبيان ذلك أن الثنوية زعمت أن النور والظلمة صانعان قديمان، والنور منهما فاعل الخير والمنافع، والظلام فاعل الشر والمضار، وأن الأجسام ممتزجة من النور والظلمة، وكل واحد منهما مشتمل على أربع طبائع وهي الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والأصلان الأولان مع الطبائع الأربع مدبرات هذا العالم، وشاركهم المجوس في اعتقاد صانعين غير أنهم زعموا أن أحد الصانعين قديم وهو الإله الفاعل للخيرات، والآخر شيطان محدث فاعل للشرور، وذكر زعماء الباطنية في كتبهم أن الإله خلق النفس، فالإله هو الأول، والنفس هو الثاني، وربما سموهم العقل والنفس، ثم قالوا: إنهما يدبران هذا العالم بتدبير الكواكب السبعة، والطبائع الأول.
وقولهم (إن الأول والثاني يدبران العالم) هو بعينه قول المجوس بإضافة الحوادث لصانعين أحدهما قديم والآخر محدث، إلا أن الباطنية عبرت عن الصانعين بـ(الأول والثاني)، وعبر المجوس عنهما بـ(يزدان ويهرمن)، فهذا هو الذي يدور في قلوب الباطنية، ووضعوا أساسا يؤدي إليهم.
إلى أن قال: ثم إن الباطنية لما تأولت أصول الدين على الشرك؛ احتالت أيضا لتأويل أحكام الشريعة على وجوه تؤدي إلى رفع الشريعة أو إلى مثل أحكام المجوس، والذي يدل على أن هذا مرادهم بتأويل الشريعة أنهم قد أباحوا لأتباعهم نكاح البنات والأخوات، وأباحوا شرب الخمر وجميع اللذات.
ويؤكد ذلك أن الغلام الذي ظهر منهم بالبحرين والأحساء بعد سليمان ابن الحسين القرمطي سن لأتباعه اللواط، وأوجب قتل الغلام الذي يمتنع على من يريد الفجور به، وأمر بقطع يد من يريد إطفاء نار بيده، أو بقطع لسان من أطفأها بنفخه، وهذا الغلام هو المعروف بابن أبي زكرياء الطامي، وكان ظهوره في سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وطالت فتنته إلى أن سلط الله عليه من ذبحه على فراشه.
ويؤكد ما قلناه من ميل الباطنية إلى دين المجوس أنا لا نجد على ظهر الأرض مجوسيا إلا وهو مواد لهم، منتظر لظهورهم على الديار، يظنون أن الملك يعود إليهم بذلك، وربما استدل أغمارهم على ذلك بما يرويه المجوس عن (زرادشت) أنه قال لـ(كتتاسب): (إن الملك يزول عن الفرس إلى الروم واليونانية، ثم يعود إلى الفرس، ثم يزول عن الفرس إلى العرب، ثم يعود إلى الفرس) وساعده (جاماسب) المنجم على ذلك وزعم أن الملك يعود إلى العجم لتمام ألف وخمسمائة سنة من وقت ظهور (زرادشت).
وكان في الباطنية رجل يعرف بأبي عبدالله العردي يدعي علم النجوم(2) ويتعصب للمجوس، وصنف كتابا وذكر فيه أن القرن الثامن عشر من مولد محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يوافق الألف العاشر، وهو نوبة المشتري والقوس. وقال: عند ذلك يخرج إنسان يعيد الدولة المجوسية ويستولي على الأرض كلها، وزعم أنه يملك مدة سبع قرانات. وقالوا: قد تحقق حكم (زرادشت وجاماسب) في زوال ملك العجم إلى الروم واليونانية في أيام الإسكندر، ثم عاد إلى العجم بعد ثلاثمائة سنة، ثم زال بعد ذلك ملك العجم إلى العرب، وسيعود إلى العجم لتمام المدة التي ذكرها جاماسب. وقد وافق الوقت الذي ذكروه أيام المكتفي والمقتدر وأخلف موعودهم، وما رجع الملك فيه إلى المجوس.
وكانت القرامطة قبل هذا الميقات يتواعدون فيما بينهم ظهور المنتظر في القرن السابع في المثلثة النارية. وخرج منهم سليمان بن حسين من الأحساء على هذه الدعوى، وتعرض للحجيج وأسرف في القتل منهم، ثم دخل مكة وقتل من كان في الطواف، وأغار على أستار الكعبة، وطرح القتلى في بئر زمزم، وكسر عساكر كثيرة من عساكر المسلمين وانهزم في بعض حروبه إلى هجر.
إلى أن قال عبدالقاهر -رحمه الله-: ثم خرج منهم المعروف بأبي سعيد الحسين بن بهرام على أهل الأحساء والقطيف والبحرين فأتى بأتباعه على أعدائه، وسبى نساءهم وذراريهم، وأحرق المصاحف والمساجد، ثم استولى على هجر، وقتل رجالها، واستعبد ذراريهم ونساءهم.
ثم ظهر المعروف بابن الصناديقي باليمن وقتل الكثير من أهلها، حتى قتل الأطفال والنساء، وانضم إليه المعروف منهم بابن الفضل في أتباعه، ثم إن الله تعالى سلط عليهما وعلى أتباعهما الأكلة والطاعون فماتوا بها.
ثم ذكر عبدالقاهر -رحمه الله- اختلاف المتكلمين في الباطنية وأنه يرى أنهم دهرية زنادقة، وذكر أن عبيدالله بن الحسن القيرواني أرسل إلى سليمان بن الحسن بن سعيد الجنابي رسالة وفيها: وذكر في هذا الكتاب إبطال القول بالمعاد والعقاب، وذكر فيها أن الجنة نعيم في الدنيا، وأن العذاب إنما هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد. وقال أيضا في هذه الرسالة: إن أهل الشرائع يعبدون إلها لا يعرفونه ولا يحصلون منه إلا على اسم بلا جسم. وقال أيضا: أكرم الدهرية فإنهم منا ونحن منهم. وفي هذا تحقيق نسبة الباطنية إلى الدهرية.
إلى أن قال عبدالقاهر -رحمه الله-: والباطنية يرفضون المعجزات وينكرون نزول الملائكة من السماء بالوحي والأمر والنهي، بل ينكرون أن يكون في السماء ملك، وإنما يتأولون الملائكة على دعاتهم إلى بدعتهم، ويتأولون الشياطين على مخالفيهم، ويزعمون أن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل، طلبا للزعامة بدعوى النبوة والإمامة.
إلى أن قال عبدالقاهر -رحمه الله-: ثم تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلا يورث تضليلا، فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته، وإدمان خدمته، والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء سر الإمام دون الإمساك عن الطعام، والزنى عندهم إفشاء سرهم بغير عهد وميثاق، وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها، وتأولوا في ذلك قوله تعالى: ﴿واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾(3)، وحملوا اليقين على معرفة التأويل.
وقد قال القيرواني في رسالته إلى سليمان بن الحسن: إني أوصيك بتشكيك الناس في القرآن، والتوراة، والزبور، والإنجيل، وبدعوتهم إلى إبطال الشرائع وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور، وإبطال الملائكة في السماء وإبطال الجن في الأرض، وأوصيك بأن تدعوهم إلى القول بأنه قد كان قبل آدم بشر كثير فإن ذلك عون لك على القول بقدم العالم.
قال عبدالقادر -رحمه الله-: وفي هذا تحقيق دعوانا على الباطنية أنهم دهرية يقولون بقدم العالم ويجحدون الصانع(4) ويدل على دعوانا عليهم القول بإبطال الشرائع أن القيرواني قال أيضا في رسالته إلى سليمان بن الحسن: وينبغي أن تحيط علما بمخاريق الأنبياء ومناقضاتهم في أقوالهم كعيسى بن مريم قال لليهود: (لا أرفع شريعة موسى) ثم رفعها بتحريم الأحد بدلا من السبت، وأباح العمل في السبت، وأبدل قبلة موسى بخلاف جهتها، ولهذا قتلته البلاد لما اختلفت كلمته.
ثم قال له: ولا تكن كصاحب الأمة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال: الروح من أمر ربي، لما لم يحضره جواب المسألة، ولا تكن كموسى في دعواه التي لم يكن له عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعبذة، ولما لم يجد المحق في زمانه عنده برهانا قال له: لئن اتخذت إلها غيري، وقال لقومه: أنا ربكم الأعلى، لأنه كان صاحب الزمان في وقته.
ثم قال في آخر رسالته: وما العجب من شيء كالعجب من رجل يدعي العقل ثم يكون له أخت أو بنت حسناء وليست له زوجة في حسنها فيحرمها على نفسه، وينكحها من أجنبي، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأخته وبنته من الأجنبي، وما وجه ذلك إلا أن صاحبهم حرم عليهم الطيبات، وخوفهم بغائب لا يعقل، وهو الإله الذي يزعمونه، وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبدا من البعث من القبور والحساب، والجنة والنار، حتى استعبدهم بذلك عاجلا، وجعلهم له في حياته ولذريته بعد وفاته خولا، واستباح بذلك أموالهم بقوله: ﴿لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى﴾(5) فكان أمره معهم نقدا، وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون، وهل الجنة إلا هذه الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والجهاد والحج.
ثم قال لسليمان بن الحسن في هذه الرسالة: وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفي هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذاتها المحرمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع أصحاب النواميس، فهنيئا لكم ما نلتم من الراحة من أمرهم.
ثم قال عبدالقادر -رحمه الله-: وفي هذا الذي ذكرنا دلالة على أن غرض الباطنية القول بمذاهب الدهرية واستباحة المحرمات وترك العبادات.
ثم ذكر عبد القادر -رحمه الله- أساليب دعائهم: ومنها ومن رآه من غلاة الرافضة كالسبأية والبيانية والمغيرية والمنصورية والخطابية لم يحتج معه إلى تأويل الآيات والأخبار، لأنهم يتأولونها معهم على وفق ضلالتهم، ومن رآه من الرافضة زيديا أو إماميا مائلا إلى الطعن في أخبار الصحابة دخل عليه من جهة شتم الصحابة، وزين له بغض بني تيم لأن أبا بكر منهم، وبغض بني عدي لأن عمر بن الخطاب كان منهم، وحثه على بغض بني أمية لأنه كان منهم عثمان ومعاوية، وربما استروح الباطني في عصرنا هذا إلى قول إسماعيل بن عباد:(6)دخول النار في حب الوصي وفي تفضيل أولاد النبيأحب إلي من جنات عدن أخلدها بتيم أو عدي
اهـ المراد من «الفرق بين الفرق».
وقد أطلت الكلام على الباطنية، لأنه قد نبغ أقوام في عصرنا لا خلاق لهم يهابون أن يدعو الناس إلى أفكار ماركس ولينين، فيتسترون بإثارة العصبيات الجاهلية، ويدعونهم إلى من يماثل ماركس ولينين، فتارة يقولون: إن الأسود العنسي المتنبي ثائر، وأخرى يقولون: إن علي بن الفضل ثائر، وعلي بن الفضل هو قرمطي باطني من أولئك، وأخرى يرفعون من شأن أروى بنت أحمد وهي صليحية تنتسب إلى المذهب الإسماعيلي الباطني الملحد، فنعوذ بالله من الضلال والجهل.
وقد ذكر القاضي حسين بن أحمد العرشي في أول كتابه «بلوغ المرام» أن الحامل له على تأليف كتابه «بلوغ المرام» أنه بلغه أن أناسا يترحمون على الصليحيين لما قاموا به من المساجد والصدقات، جهلا أنهم دعاة الباطنية وأصحاب الطائفة العبيدية. اهـ بالمعنى.
وإني لأتعجب من أناس أعمى الله بصائرهم، يرفعون من شأن علي بن الفضل، وقد أظهر ما أظهر من الكفر البواح، وقتل اليمنيين قتلا ذريعا، وإني ذاكر لك بعض ما ذكره بعض المؤرخين اليمنيين، قال القاضي حسين بن أحمد العرشي في كتابه «بلوغ المرام» ص(21): اعلم أن الباطنية أخزاهم الله تعالى أضر على الإسلام من عبدة الأوثان، وسموا بها لأنهم يبطنون الكفر ويتظاهرون بالإسلام، ويختفون حتى تمكنهم الوثبة وإظهار الكفر وهم ملاحدة بالإجماع ويسمون بالإسماعيلية لأنهم ينسبون أئمتهم المستورين فيما يزعمون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، وبالعبيدية لدعائهم إلى عبيدالله بن ميمون القداح الذي نسبته الباطنية إلى ما يزعمون من الأئمة المستورين، والعبيديون من أولاد عبيدالله ولاة مصر ذلك الزمن، والآن يسمون شيعة لكونهم مظهرين أن أئمتهم من أولاد الرسول حين عرفوا أنه لا يستقيم لهم إمالة الحق والدخول إلى دهليز الكفر إلا بإظهار المحبة والتشيع.
ولهم قضايا شنيعة، وأعمال فظيعة، كالإباحية وغيرها، وقد تابعهم على ذلك من ذهب عنه النور الإيماني، واستولى على قلبه الهوى الشيطاني، وهم مع ذلك ينكرون القرآن والنبوة، والجنة والنار، ولولا أن حياتهم معلومة عندهم مرتبة بينهم لأنكروها، وعلى الجملة فدينهم بالنجوم، وظواهرهم التخوم، ولا يكاد يظهر مذهبهم لأتباعهم إلا لمن رسخ دينهم في قلبه، وتراهم إذا وجدوا لأنفسهم قوة أظهروا أمرهم، وأعلنوا كفرهم، فإن غلبوا ولم تساعدهم الأيمان كمنوا كما تكمن الحية في جحرها، وهم مع ذلك يؤملون الهجوم والوثبة، وأن ينهشوا عباد الله، وقد أفصح السيد الدامغاني عن أطراف من أحوالهم في رسالته بعد اختلاطه بهم وتردده عليهم، ولا ينبغي لذي معرفة وقوة أن يعرف منهم أحدا يقتدر عليه فيتركه وشأنه، فإنهم أهلكهم الله شياطين الأرض.
وابتدأ أمرهم في سنة (277) وذلك بأن علي بن الفضل رجل من خنفر ابن سبأ بن صيفي بن زرعة، وهو حمير بن سبأ الأصغر، حج وزار قبر الحسين ابن علي فوجد عنده ميمون القداح وكان مجوسيا ادعى أنه من ولد إسماعيل ابن جعفر، وأنه أحد الأئمة المستورين على الصيغة التي قد دبرها فتبطن أمر علي بن الفضل فوجده رجلا شهما ذا فهم ودراية، وبه إلى مذهبه اقتراب، فاستماله فمال، فأخبره أن ابنه عبيد هو المهدي وأنه الذي يملك البلاد، وأما ميمون فلا حظ له في الملك، وعرف من جهة النجوم تملك الذكور، ثم استدعى له رجلا آخر يسمى منصور بن حسن بن جيوشب (بالجيم) بن باذان قيل: من ولد عقيل بن أبي طالب وكان ذا مكر ودهاء، وأمرهما أن يخرجا إلى اليمن، وقال لهما: إن لليمانية نصيبا في هذا.
فأما منصور بن حسن فقصد عدن لاعة، وكان -كما قدمت داهية- فملك نواحي مسور، ثم ملكه وحبس عامل أسعد بن أبي يعفر وأطبق مذهبه.
وأما علي بن الفضل فقصد (يافع) فوجدهم رعاعا فأقام يتعبد بينهم حتى اعتقدوه دينا، ثم قصد بهم ابن أبي العلا الأضايحي وهو يومئذ سلطان (لحج) فهزمه ابن أبي العلا فلما رجع من هزيمته تلك قال لأصحابه: قد وجدت شيئا فيه النجاح فتعاودوا إليه حالا فأخذ (لحج) وصاحبها وكان صاحب (لحج) ذا مال فاستقوى به علي بن الفضل، واستفحل أمره فقصد جعفر بن أحمد المناخي إلى (المذيخرة)، فهزم المناخي ثم عاوده فأخذها وقتل جعفر بن أحمد، وجعل (المذيخرة) محطة ملكه، وفتح البلاد وقصد صنعاء وأخرب (منكث) وملك صنعاء في سنة (299) فأظهر مذهبه ثم لم يكفه حتى ادعى النبوة، وأحل البنات مع الأمهات وفي ذلك يقول القائل:
نقيم شرائع هذا النبي
خذي العود يا هذه واضربي
وهذا نبي بني يعرب
تقضى نبي بني هاشم
وحط الصيام ولم يتعب
فحط الصلاة وحط الزكاة
ومن فضله زاد حل الصبي
وحل البنات مع الأمهات
وقصد زبيد وبها أبوالحسن إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن زياد، فكان ما قدمناه من سبي النساء، وقتل الرجال، وقويت شوكته، فدعا إلى نفسه، وترك الدعوى لعبيدالله بن المهدي وخالفه منصور بن حسن فتحصن منه بمسور. فلم يزل حاطا عليه حتى اصطلحا وعاد إلى المذيخرة، واستعمل أسعد بن أبي يعفر على صنعاء.
وكان أسعد ينفر منه ومن مذهبه ويخاف من وثبته عليه، ولم يزل علي بن الفضل يعلو أمره حتى قتله الشريف الواصل من العراق، وأنه بلغ إلى أسعد بن أبي يعفر فأسر إليه بما يريد، وأنه خرج من العراق واهبا نفسه، فزاده أسعد بن أبي يعفر إن هو قتله وعاد إليه شاطره ماله، فتوجه إلى المذيخرة ولم يزل يتردد حتى استدعاه ابن الفضل ليفصد له عرقا، وقد عرف بالطب فجعل على مبضعه سما وفصده، وخرج من تلك البلدة في سرعة فالتهب ابن الفضل ومات، وطلب الشريف فأدركه في أعلى الطريق فقتل، فبلغ أسعد بن أبي يعفر فقصد المذيخرة فلم يزل حاطا عليها سنة كاملة حتى قتل ابن علي بن الفضل وأخذ بنات ابن فضل سبيا وكن ثلاثا وملك المذيخرة عنوة، وزالت الباطنية عن مخلاف يعفر.
وقال عمر بن علي بن سمرة الجعدي في «طبقات فقهاء اليمن» ص(75): ثم لحق اليمن كله في آخر المائة الثالثة وأكثر المائة الرابعة فتنتان عظيمتان:
فتنة القرامطة: وقد عمت العراق والشام والحجاز وإن اختلف تأثيرها في البلدان فملك هذا المخلاف اليمني علي بن الفضل لعنه الله، وأظهر فيه ما هو منسوب إليه ومشهور عنه على منبر جامع الجند بقوله:
وغني هزاريك ثم اطربي
خذي الدف يا هذه والعبي
وهذا نبي بني يعرب
تولى نبي بني هاشم
وهذي شرائع هذا النبي
لكل نبي مضى شرعة
وحط الصيام ولم يتعب
فقد حط عنا فروض الصلاة
ولو كان من قبل قاتل نبي
وحط الذنوب على قاتل
ومن فضله زاد حل الصبي
أحل البنات مع الأمهات
وإن صوموا فكلي واشربي
إذا الناس صلوا فلا تنهضي
ولا زورة القبر في يثرب
ولا تطلبي السعي عند الصفا
من الأقربين ومن أجنبي
ولا تمنعي نفسك المعرسين
وصرت محرمة للأب
فكيف تحلي لهذا الغريب
وسقاه في الزمن المجدب
أليس الغراس لمن ربه
حلالا فقدست من مذهب
وما الخمر إلا كماء السماء
والشعر طويل وكله تحليل محرمات الشرع والاستهانة به، فقتل أهل اليمن قتلا ذريعا قبل هذا وملك الحصون والأموال العظيمة، وكانت المذيخرة هي أنفس مدائن اليمن في ذلك الوقت، وسلطانها جعفر بن إبراهيم المناخي جد السلطان سبأ بن حسين بن بكيل بن قيس الأشعري، فقتله القرمطي علي بن الفضل الجدني وملكها وملك هو وحليف له يسمى الحسن بن سعيد بن زاذان النجار صنعاء على بني الحوالي، وهربوا منهم إلى الجوف ومنهم ذرية الحوالي أسعد بن عبدالصمد، وعلي بن أسعد بن يعفر الشريف الحوالي وأصحابهما ممن سكن ظبا وبعدان والعرافة. وحضر في هذا الزمان وطرد الناصر بن الهادي من صعدة، وملكت القرامطة زبيد وعدن مع أن الحج لم ينقطع إلا في عامين أو ثلاثة بعد دخول أبي سعيد الجنابي(7) من القرامطة مكة سنة سبع عشرة وثلاث مائة فقتل الحجاج قتلا ذريعا قيل قتل ثلاث عشر ألفا واقتلع الركن الشريف وراح به إلى الحسا وقال في ذلك شعرا:
لصب علينا النار من فوقنا صبا
فلو كان هذا البيت لله ربنا
مجللة لم تبق شرقا ولا غربا
لأنا حججنا حجة جاهلية
جنائز لم تبغي سوى ربها ربا
وإنا تركنا بين زمزم والصفا
وشعره مشهور في كتب التواريخ لعنه الله، وفي رسالة محمد بن مالك الحمادي من ذلك جملة وفي كشف الأسرار للقاضي الأجل أبي بكر الباقلاني طرف منه. اهـ
ولا تظنن أن هذه العقيدة الخبيثة قد انقرضت، ذلك ظن الذين لا يعلمون، فهؤلاء المكارمة الذين هم أخبث من اليهود والنصارى بنجران، والنخاولة بالمدينة ولا تزال الأحساء والقطيف والبحرين مملوءة من هذا الجنس الخبيث وهاهم بحراز وعراس، بل قد عمر بعضهم بيوتا بجوار نقم بصنعاء، ولو تمكنوا لا مكنهم الله لفعلوا بالمسلمين ما فعله علي بن الفضل الملحد.
وهذه الأبيات التي ذكرها الجعدي وغيره ليس لدينا السند المتصل الصحيح أنه قالها، ولايضرنا أقالها هو أم بعض أصحابه أم قالها بعض خصومه أم قال بعضها ونسج على منوالها بعض خصومه فهي تحكي الواقع الذي لا محيص عنه ولا يدافع عنه إلا ملحد يتستر بالوطنية، وهو يبطن الكفر والحقد على الإسلام والمسلمين.
ولا تظنن أن فتنة عبدالله بن سبأ وعلي بن الفضل قد انقطعتا فهذه الرافضة بإيران آلة لأعداء الإسلام أزعجوا المسلمين حتى في تلك الأيام المباركة والمشاعر المحترمة في أيام الحج وفي مكة ومنى وعرفة، الناس يتقربون إلى الله بذكره وأولئك الحمقى أشباه الأنعام يدندنون بذكر إمام الضلالة الخميني ويهتفون بهتافات كاذبة (تسقط أمريكا وروسيا) نعم تسقطان ولكنهما لا يسقطان على أيدي من يحارب الإسلام والمسلمين لا يسقطان إلا على أيدي أمة موحدة تجاهد لله. وأما الرافضة في اليمن فقد عبر على لسانهم الشاعر أنهم لا يريدون إلا الكرسي ليس إلا فلقد أحسن إذ يقول:
قل لفهد وللقصور العوانس
إننا سادة أباة أشاوس
سنعيد الحكم للإمام إما
بثوب النبي وإما بأثواب ماركس
وإذا خابت الحجاز ونجد
فلنا إخوة كرام بفارس
وقال ابن كثير -رحمه الله- في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين (ج11 ص61) نقلا عن ابن الجوزي: وفيها تحركت القرامطة وهم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زاردشت ومزدك، وكانا يبيحان المحرمات ثم هم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل، وأكثر ما يفسدون من جهة الرافضة ويدخلون إلى الباطل من جهتهم لأنهم أقل الناس عقولا، ويقال لهم: الإسماعيلية لانتسابهم إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر الصادق، ويقال لهم: القرامطة قيل: نسبة إلى قرمط بن الأشعث البقار.
وقيل: إن رئيسهم، كان في أول دعوته يأمر من اتبعه بخمسين صلاة في كل يوم وليلة، ليشغلهم بذلك عما يريد تدبيره من المكيدة، ثم اتخذ نقباء اثني عشر وأسس لأتباعه دعوة ومسلكا يسلكونه ودعا إلى إمام أهل البيت.
ويقال لهم: الباطنية لأنهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض، والخرمية والبابكية نسبة إلى بابك الخرمي الذي ظهر في أيام المعتصم وقتل كما تقدم. ويقال لهم: المحمرة نسبة إلى صبغ الحمرة شعارا مضاهاة لبني العباس ومخالفة لهم لأن بني العباس يلبسون السواد. ويقال لهم: التعليمية نسبة إلى التعلم من الإمام المعصوم وترك الرأي ومقتضى العقل. ويقال لهم: السبعية نسبة إلى القول بأن الكواكب السبعة المتحيزة السائرة مدبرة لهذا العالم فيما يزعمون، لعنهم الله وهي القمر في الأولى، وعطارد في الثانية، والزهرة في الثالثة، والشمس في الرابعة، والمريخ في الخامسة، والمشتري في السادسة، وزحل في السابعة.
قال ابن الجوزي: وقد بقي من البابكية جماعة، يقال إنهم يجتمعون في كل سنة ليلة هم ونساؤهم ثم يطفئون المصباح وينتهبون النساء، فمن وقعت يده في امرأة حلت له، ويقولون: هذا اصطياد مباح، لعنهم الله.
وقد ذكر ابن الجوزي تفصيل قولهم وبسطه وقد سبقه إلى ذلك أبوبكر الباقلاني المتكلم المشهور في كتابه «هتك الأستار وكشف الأسرار» في الرد على الباطنية، ورد على كتابهم الذي جمعه بعض قضاتهم بديار مصر في أيام الفاطميين الذي سماه «البلاغ الأعظم والناموس الأكبر» وجعله ست عشرة درجة: أول درجة أن يدعو من يجتمع به أولا إن كان من أهل السنة إلى القول بتفضيل علي على عثمان بن عفان، ثم ينتقل به إذا وافقه على ذلك إلى تفضيله على الشيخين أبي بكر وعمر، ثم يترقي به إلى سبهما لأنهما ظلما عليا وأهل البيت، ثم يترقي به إلى تجهيل الأمة وتخطئتها في موافقة أكثرهم على ذلك، ثم يشرع في القدح في دين الإسلام من حيث هو، وقد ذكر لمخاطبته لمن يريد أن يخاطبه بذلك شبها وضلالات لا تروج إلا على كل غبي جاهل شقي كما قال تعالى: ﴿والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك﴾(8) أي: يضل به من هو ضال. وقال: ﴿فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم﴾(9) وقال: ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون * ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون﴾(10) إلى غير ذلك من الأيات التي تتضمن أن الباطل والجهل والضلال والمعاصي لا ينقاد لها إلا شرار الناس كما قال بعض الشعراء:
إن هو مستحوذ على أحد إلا على أضعف المجانين
ثم بعد هذا كله لهم مقامات في الكفر والزندقة والسخافة، مما ينبغي لضعيف العقل والدين أن ينزه نفسه عنه إذا تصوره، وهو مما فتحه إبليس عليهم من أنواع الكفر وأنواع الجهالات، وربما أفاد إبليس بعضهم أشياء لم يكن يعرفها كما قال بعض الشعراء:
وكنت امرأ من جند إبليس برهة من الدهر حتى صار إبليس من جندي
والمقصود أن هذه الطائفة تحركت في هذه السنة ثم استفحل أمرهم وتفاقم الحال بهم كما سنذكره، حتى آل بهم الحال إلى أن دخلوا المسجد الحرام فسفكوا دم الحجيج في وسط المسجد حول الكعبة وكسروا الحجر الأسود واقتلعوه من موضعه، وذهبوا به إلى بلادهم في سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ثم لم يزل عندهم إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فمكث غائبا عن موضعه من البيت ثنتين وعشرين سنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ
وقال الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (ج11 ص149) في حوادث سنة 312: في المحرم منها اعترض القرمطي أبوطاهر الحسين بن أبي سعيد الجنابي لعنه الله ولعن أباه للحجيج وهم راجعون من بيت الله الحرام قد أدوا فرض الله عليهم، فقطع عليهم الطريق فقاتلوه دفعا عن أموالهم وأنفسهم وحريمهم، فقتل منهم خلقا كثيرا لا يعلمهم إلا الله، وأسر من نسائهم وأبنائهم ما اختاره، واصطفى من أموالهم ما أراد، فكان مبلغ ما أخذه من الأموال ما يقاوم ألف ألف دينار، ومن الأمتعة والمتاجر نحو ذلك، وترك بقية الناس بعد ما أخذ جمالهم وزادهم وأموالهم ونساءهم وأبناءهم على بعد الديار في تلك الفيافي والبرية بلا ماء ولا زاد ولا محمل.
وقال الحافظ ابن كثير في حوادث سنة سبع عشرة وثلاثمائة (ج11 ص160): ذكر أخذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم.
فيها خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمي، فوصلوا إلى مكة سالمين وتوافت الركوب هناك من كل مكان وجانب وفج، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل في رحاب مكة وشعابها وفي المسجد الحرام في الشهر الحرام وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقا كثيرا وجلس أميرهم أبوطاهر لعنه الله على باب الكعبة والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في يوم التروية الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول:
أنا والله وبالله أنا أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنافكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئا، بل يقتلون وهم كذلك ويطوفون فيقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف فلما قضى طوافه أخذته السيوف فلما وجب أنشد وهو كذلك:ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوافلما قضى القرمطي لعنه الله أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم ودفن كثيرا منهم في أماكنهم من الحرم وفي المسجد الحرام ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصل عليهم لأنهم محرمون شهداء في نفس الأمر وهدم قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها عنها وشققها بين أصحابه، وأمر رجلا أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه فسقط على أم رأسه فمات إلى النار، فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب.
ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده وقال: أين الطير الأبابيل؟؟! أين الحجارة من سجيل؟؟! ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم ثنتين وعشرين سنة حتى ردوه كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود وتبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود ليوضع في مكانه وبذل له جميع ما عنده من الأموال فلم يلتفت إليه فقاتله أمير مكة، فقتله القرمطي وقتل أكثر أهل بيته، وأهل مكة وجنده واستمر ذاهبا إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج.
وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحادا لم يسبقه إليه أحد ولا يلحقه فيه، وسيجازيه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد، وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنة ببلاد إفريقية من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي وهو أبومحمد عبيدالله بن ميمون القداح وقد كان صباغا بسلمية، وكان يهوديا فادعى أنه أسلم، ثم سافر من سلمية فدخل بلاد إفريقية، فادعى أنه شريف فاطمي فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة، وصارت له دولة فملك مدنية سجلماسة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية وكان قرار ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه ويدعون إليه ويترامون عليه، ويقال: إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك سياسة ودولة لا حقيقة له.
وذكر ابن الأثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على ما فعل بمكة، حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفت أسرارهم التي كانوا يبطنونها بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، وأمره برد ما أخذه منها وعوده إليها، فكتب إليه بالسمع والطاعة، وأنه قد قبل ما أشار إليه من ذلك.
وقد أسر بعض أهل الحديث في أيدي القرامطة فمكث في أيديهم مدة ثم فرج الله عنه، وكان يحكي عنهم عجائب من قلة عقولهم، وعدم دينهم، وأن الذي أسره كان يستخدمه في أشق الخدمة وأشدها، وكان يعربد عليه إذا سكر فقال لي ذات ليلة وهو سكران: ما تقول في محمدكم؟ فقلت: لا أدري. فقال: كان سائسا. ثم قال: ما تقول في أبي بكر؟ فقلت: لا أدري. فقال: كان ضعيفا مهينا، وكان عمر فظا غليظا، وكان عثمان جاهلا أحمق، وكان علي ممخرقا ليس كان عنده أحد يعلمه ما ادعى أنه في صدره من العلم، أما كان يمكنه أن يعلم هذا كلمة، وهذا كلمة، ثم قال: هذا كله مخرقة، فلما كان من الغد قال: لا تخبر بهذا الذي قلت لك أحدا، ذكره ابن الجوزي في «منتظمه».
وروى عن بعضهم أنه قال: كنت في المسجد الحرام يوم التروية في مكان الطواف فحمل على رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي، ثم قال: يا حمير -ورفع صوته بذلك- أليس قلتم في بيتكم هذا ﴿ومن دخله كان ءامنا﴾(11)، فأين الأمن؟ قال: فقلت له: اسمع جوابك. قال: نعم. قلت: إنما أراد الله فأمنوه. قال: فثنى رأس فرسه وانصرف.
وقد سأل بعضهم ههنا سؤالا فقال: قد أحل الله سبحانه بأصحاب الفيل وكانوا نصارى ما ذكره في كتابه ولم يفعلوا بمكة شيئا مما فعله هؤلاء ومعلوم أن القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبدة الأصنام، وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحد، فهلا عوجلوا بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل؟
وقد أجيب عن ذلك بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهارا لشرف البيت، ولما يراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يراد تشريفها وإرسال الرسول منها أهلكهم سريعا عاجلا، ولم يكن شرائع مقررة تدل على فضله فلو دخلوه وأخربوه لأنكرت القلوب فضله، وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع وتمهيد القواعد والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرم إلحادا بالغا عظيما، وأنهم من أعظم الملحدين الكافرين بما تبين من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معاجلتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله سبحانه يمهل ويملي ويستدرج، ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر، كما قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار»﴾(12)، وقال: ﴿لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد*? متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد﴾(13)، وقال: ﴿نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ﴾(14)، وقال: ﴿متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون﴾(15).
وذكر الحافظ ابن كثير في حوادث سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، أن القرامطة ردت الحجر الأسود.
_______________________
(1) كلا فالرسول ? يقول: ?ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال?. رواه مسلم.
(2) سيأتي الكلام إن شاء الله، على علم النجوم.
(3) سورة الحجر، الآية: 99.
(4) سيأتي إن شاء الله أنه لا يطلق على الله اسم الصانع إذ أسماء الله توقيفية.
(5) سورة الشورى، الآية: 23.
(6) هو المشهور بالصاحب بن عباد، مبتدع غوي جمع بين الرفض والاعتزال، وستأتي ترجمته إن شاء الله.
(7) الذي فعل هذا كله هو أبوطاهر ولد أبي سعيد.
(8) سورة الذاريات، الآية: 7-9.
(9) سورة الصافات، الآية: 161-163.
(10) سورة الأنعام، الآية: 112-113.
(11) سورة آل عمران، الآية: 97.
(12) سورة إبراهيم، الآية: 42.
(13) سورة آل عمران، الآية: 196-197.
(14) سورة لقمان، الآية: 24.
(15) سورة يونس، الآية: 70.