كان قد تعدى شره إلى الناس كلهم حتى إلى أخته، وكان يتهمها بالفاحشة، ويسمعها أغلظ الكلام، فتبرمت منه وعملت على قتله، فراسلت أكبر الأمراء أميرا يقال له: ابن دواس، فتوافقت هي وهو على قتله ودماره وتواطآ على ذلك، فجهز من عنده عبدين أسودين شهمين وقال لهما: إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل المقطم، ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر في النجوم وليس معه أحد إلا ركابي وصبي، فاقتلاه واقتلاهما معه.
واتفق الحال على ذلك فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم لأمه: علي في هذه الليلة قطع عظيم، فإن نجوت منه عمرت نحوا من ثمانين سنة، ومع هذا فانقلي حواصلى إليك، فإن أخوف ما أخاف عليك من أختي، وأخوف ما أخاف على نفسي منها، فنقل حواصله إلى أمه، وكان له في صناديق قريب من ثلاثمائة ألف دينار وجواهر أخر. فقالت له أمه: يا مولانا إذا كان الأمر كما تقول فارحمني ولا تركب في ليلتك هذه إلى موضع. وكان يحبها فقال: أفعل.
وكان من عادته أن يدور حول القصر كل ليلة، فدار ثم عاد إلى القصر فنام إلى قريب من ثلث الليل الأخير فاستيقظ. وقال: إن لم أركب الليلة فاضت نفسي، فثار فركب فرسا وصحبه صبي وركابي، وصعد الجبل المقطم فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه، وقطعا يديه ورجليه، وبقرا بطنه، فأتيا به مولاهما ابن دواس، فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها، واستدعت الأمراء والأكابر والوزير، وقد أطلعته على الجلية، فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله، وكان بدمشق فاستدعت به وجعلت تقول للناس: إن الحاكم قال لي: إنه يغيب عنكم سبعة أيام ثم يعود، فاطمأن الناس وجعلت ترسل ركابيين إلى الجبل فيصعدونه ثم يرجعون فيقولون: تركناه في الموضع الفلاني، ويقول الذين بعدهم لأمه: تركناه في موضع كذا وكذا، حتى اطمأن الناس، وقدم ابن أخيها واستصحب معه من دمشق ألف ألف دينار، وألفي ألف درهم، فحين وصل ألبسته تاج جد أبيه المعز، وحلة عظيمة وأجلسته على السرير وبايعه الأمراء والرؤساء، وأطلق لهم الأموال وخلعت على ابن دواس خلعة سنية هائلة، وعملت عزاء أخيها الحاكم ثلاثة أيام، ثم أرسلت إلى ابن دواس طائفة من الجند ليكونوا بين يديه بسيوفهم وقوفا في خدمته، ثم يقولوا له في بعض الأيام: أنت قاتل مولانا، ثم يهبرونه بسيوفهم، ففعلوا ذلك وقتلت كل من اطلع على سرها في قتل أخيها، فعظمت هيبتها، وقويت حرمتها، وثبتت دولتها، وقد كان عمر الحاكم يوم قتل سبعا وثلاثين سنة، ومدة ملكه من ذلك خمسا وعشرين سنة. اهـ
قال ابن القيم -رحمه الله- في «إغاثة اللهفان» (ج2 ص262): وكان ابن سيناء كما أخبر عن نفسه قال: أنا وأبي من أهل دعوة الحاكم فكان من القرامطة الباطنية الذين لا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا رب خالق، ولا رسول مبعوث جاء من عند الله، وكان هؤلاء زنادقة يتسترون بالرفض ويبطنون الإلحاد المحض، وينتسبون إلى أهل بيت الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو وأهل بيته براء منهم، نسبا ودينا، وكانوا يقتلون أهل العلم والإيمان، ويدعون أهل الإلحاد والشرك والكفران، لا يحرمون حراما ولا يحلون حلالا، وفي زمنهم ولخواصهم وضعت رسائل إخوان الصفا. اهـ
قال ابن كثير -رحمه الله- (ج12 ص23): ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. فيها جرت كائنة غريبة عظيمة، ومصيبة عامة، وهي أن رجلا من المصريين من أصحاب الحاكم اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين على أمر سوء، وذلك أنه لما كان يوم النفر الأول طاف هذا الرجل بالبيت، فلما انتهى إلى الحجر الأسود جاء ليقبله فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات متواليات. وقال: إلى متى نعبد هذا الحجر، ولا محمد ولا علي يمنعني مما أفعله، فإني أهدم اليوم هذا البيت، وجعل يرتعد فاتقاه أكثر الحاضرين وتأخروا عنه، وذلك لأنه كان رجلا طوالا جسيما أحمر اللون أشقر الشعر، وعلى باب الجامع جماعة من الفرسان وقوف ليمنعوه ممن يريد منعه من هذا الفعل وأراده بسوء، فتقدم إليه رجل من أهل اليمن معه خنجر فوجأه بها، وتكاثر الناس عليه فقتلوه وقطعوه قطعا، وحرقوه بالنار، وتتبعوا أصحابه فقتلوا منهم جماعة، ونهبت أهل مكة الركب المصري وتعدى النهب إلى غيرهم، وجرت خبطة عظيمة وفتنة كبيرة جدا، ثم سكن الحال بعد أن تتبع أولئك النفر الذين تمالؤوا على الإلحاد في أشرف البلاد، غير أنه قد سقط من الحجر ثلاث فلق مثل الأظفار، وبدا ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة محببا مثل الخشخاش، فأخذ بنوشيبة تلك الفلق فعجنوها بالمسك واللك وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت، فاستمسك الحجر، واستمر على ما هو عليه الآن، وهو ظاهر لمن تأمله.