المقدمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

﴿ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون

﴿ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا

﴿ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما

أما بعد:

فلما كان موضوع الشفاعة من المواضيع التي يزداد المؤمن بقراءتها حبا لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، رأيت أن أكتب ما عثرت عليه من الأحاديث مبينا بعون الله صحيحها من سقيمها، ومعلولها من سليمها، بحسب الاستطاعة حتى يستفيد مما أكتبه طلبة العلم وغيرهم، فرب حديث قد شاع وذاع واشتهر على ألسنة العامة، وهو لا يثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولست أعني أني آت بما لا تستطيع الأوائل، ولكني أستفيد من كتبهم، وأحذو حذوهم، فهم رحمهم الله قد قاموا بجهود ليس لها نظير في خدمة السنة المطهرة، فجزاهم الله عن الإسلام خيرا.

وإن مما دفعني على اختيار الكتابة في هذا الموضوع، أن هناك بعض مقامات الشفاعة قد أنكرها بعض ذوي الأهواء، فمن ثم أدرج الشفاعة أهل السنة رحمهم الله في كتب العقيدة، فقل أن تجد مؤلفا يؤلف في العقيدة إلا وقد عقد كتابا أو فصلا في كتابه للشفاعة، بيانا للحق، وقمعا للباطل، ونصرة للعقيدة الحقة، فجزاهم الله عن الإسلام خيرا.

وهؤلاء المنكرون لبعض مقامات الشفاعة وهي الشفاعة لأهل الكبائر، والشفاعة في خروج الموحدين من النار، قد أخبر عنهم عمر -رضي الله عنه-، وهو المحدث(1)، فقد روى الإمام أحمد في «مسنده» (ج1 ص23) من طريق علي بن زيد(2) عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: خطب عمر -رضي الله عنه-... -وفي الخطبة-: وإنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم وبالدجال وبالشفاعة وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعد ما امتحشوا.

ولما كان من أعظم شبههم الباطلة أن أحاديث الشفاعة أخبار آحاد، وأنه لا يؤخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة جمعت ما استطعت الوقوف عليه حتى تبطل شبهتهم، ويعلموا أن أحاديث الشفاعة متواترة عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، على أني أعلم أن شبهة كون أخبار الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة دسيسة من قبل أعداء السنة حتى يبطلوا سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وقد أحسن الرد عليهم الإمام الشافعي -رحمه الله- في «الرسالة»، والإمام البخاري في «صحيحه»، وعقد كتابا في صحيحه أسماه: (كتاب أخبار الآحاد)، وممن تولى الرد عليهم ابن حزم في «الأحكام»، وابن القيم في «الصواعق المرسلة»، ولو لم يكن إلا عموم ﴿وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(3) وعموم قوله تعالى: ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم(4) والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يرسل الرسول ويأمره أن يعلم الناس العقائد والعبادات وما يحتاجون إليه كما هو معلوم من سيرته، ومما أستحضره الآن الحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال لمعاذ بن جبل: «إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله...» الحديث، وقال عمر -رضي الله عنه-: إني لم أرسل عمالي إليكم ليأخذوا أموالكم، ولا ليضربوا أبشاركم، ولكن ليعلموكم دينكم. رواه أحمد في «مسنده»(5).

أولئك المنكرون لبعض مقامات الشفاعات في جانب، وبعض الجهلة من المسلمين في جانب آخر، وهم الذين يظنون أن لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وللصالحين أن يدخلوا الجنة من شاءوا، ويخرجوا من النار من شاءوا، وهكذا يظنون أن لهم التصرف المطلق في الدنيا، وكلتا الطائفتين مجانبة للصواب، والحق وسط أن الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والصالحين سيشفعون في الآخرة لكن بشروط ستأتي في الجمع بين الآيات المثبتة للشفاعة والآيات النافية، وهكذا لهم في حياتهم أن يشفعوا عند الله لكن فيما يقدرون عليه، وقد شفع النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- للمشركين عند الله أن يسقوا كما في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-.

فمذهب أهل السنة رحمهم الله وسط بين الغالي والجافي، لأنهم رحمهم الله يجمعون بين الأدلة، وبقية الطوائف تأخذ بجانب من الأدلة وتترك الجانب الآخر، فمن ثم تخبطوا وتعسفوا في دحض الأدلة التي لا توافق أهواءهم، فتارة يتجرأون ويطعنون في الصحابي الراوي للسنة، وتارة يقولون: أخبار آحاد. وتارة يؤولون الأدلة بحيث يعطلونها عما تدل عليه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويظهر حجته، فلم يزل بحمد الله في كل بلد من بلاد المسلمين من يقيم عليهم الحجة، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذ يقول: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك» متفق عليه بهذا المعنى.

وإن من أحسن الكتب فيما اطلعت عليه في تزييف أباطيلهم كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة -رحمه الله-، فقد أبطل رحمه الله جل شبهاتهم حول سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فجزاه الله خيرا.

_______________________

(1) المحدث: الملهم.

(2) علي بن زيد هو ابن جدعان، مختلف فيه، وهو إلى الضعف أقرب.

(3) الحشر الآية: 17.

(4) النور الآية: 63.

(5) ثم ظهر لي أنه ضعيف، لأن الحافظ يقول في أبي فراس -وهو أحد رواته- إنه: مقبول. يعني إذا توبع وإلا فلين.

  العناوين الفرعية
 الشفاعة في اللغة: فصل الآيات الواردة في الشفاعة والجمع بينها


الشفاعة
  • عنوان الكتاب: الشفاعة
  • تاريخ الإضافة: 13 رجب 1426هـ
  • الزيارات: 640793
  • التحميلات: 20527
  • تفاصيل : الطبعة الثالثة دار الآثار للنشر والتوزيع
  • تنزيل: اضغط هنا للتنزيل  zip

فهرس الكتاب

تفريع الفهرس | ضم الفهرس

الشفاعة