فصل الآيات الواردة في الشفاعة والجمع بينها

وبما أنها قد وردت آيات تنفي الشفاعة والشفيع، وآيات تثبتهما رأيت أن أذكر الآيات التي تنفي الشفاعة والشفيع، والآيات التي تثبتهما ثم أذكر الجمع بين هذه الآيات حسبما جمع بينها أهل العلم رحمهم الله.

الآيات الواردة في نفي الشفاعة والشفيع:

قال الله تعالى: ﴿واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل(1) ولا هم ينصرون(2).

وقال تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة(3) ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون(4).

وقال تعالى حاكيا عن بعض الصالحين: ﴿أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون(5).

في هذه الآيات نفي الشفاعة.

وقال تعالى: ﴿وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون(6).

وقال تعالى: ﴿وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل(7) نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون(8).

وقال تعالى: ﴿ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم(9) في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون(10).

وقال تعالى حاكيا عن أهل النار: ﴿فما لنا من شافعين(11)، ولا صديق حميم، فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين(12).

ومعنى حميم: قريب، وكرة: رجعة إلى الدنيا.

وقال تعالى: ﴿الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش(13) ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون(14).

وقال تعالى: ﴿أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون، قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون(15).

وقال تعالى: ﴿وأنذرهم يوم الآزفة(16) إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع(17).

في هذه الآيات نفي الشفيع.

الآيات في إثبات الشفاعة والشفيع:

قال الله تعالى: ﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه(18).

وقال تعالى: ﴿ما من شفيع إلا من بعد إذنه(19).

وقال تعالى: ﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون(20)(21).

فهي هذه الآيات إثبات الشفيع بشروط وستأتي إن شاء الله.

وقال الله تعالى: ﴿ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا، فيذرها قاعا صفصفا(22)، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا(23)، يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا(24).

وقال تعالى: ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون(25).

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه أي: من الأصنام والأوثان ﴿الشفاعة أي: لا يقدرون على الشفاعة لهم ﴿إلا من شهد بالحق وهم يعلمون هذا استثناء منقطع، أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. اهـ

وقال تعالى: ﴿وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى(26).

هذه الآيات تدل على الشفاعة المثبتة بشروط ستأتي إن شاء الله.

الجمع بين الآيات المثبتة والآيات النافية:

يتحصل من هذا أن النفي مقصود به الشفاعة التي تطلب من غير الله، كما قال تعالى: ﴿قل لله الشفاعة جميعا(27) والشفاعة المثبتة لا تقبل إلا بشروط:

1- قدرة الشافع على الشفاعة كما قال تعالى في حق الشافع الذي يطلب منه وهو غير قادر على الشفاعة: ﴿ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون(28)، وقال تعالى: ﴿ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون(29) فعلم من هذا أن طلب الشفاعة من الأموات طلب ممن لا يملكها، قال تعالى: ﴿والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير(30) وقال تعالى: ﴿قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له(31).

2- إسلام المشفوع له، قال الله تعالى: ﴿ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع(32)، والمراد بالظالمين هنا: الكافرون، بدليل الأحاديث المتواترة في الشفاعة لأهل الكبائر، وستأتي إن شاء الله في موضعها. قال الحافظ البيهقي -رحمه الله- في «الشعب» (ج1 ص205): فالظالمون هاهنا هم الكافرون، ويشهد لذلك مفتتح الآية إذ هي في ذكر الكافرين. اهـ

وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسير الآية: أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير. اهـ

ويستثنى من المشركين أبوطالب، فإن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يشفع له حتى يصير في ضحضاح من نار كما سيأتي في الأحاديث في مواضعها إن شاء الله.

3- الإذن للشافع، كما قال تعالى: ﴿من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه(33).

4- الرضا عن المشفوع له كما قال تعالى: ﴿وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى(34) وقال تعالى: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى(35).

وبهذا تنتهي المقدمة، ونستعين بالله في الشروع في ذكر الأحاديث بأسانيدها مع العزو إلى بقية المخرجين بحسب الاستطاعة، فإن في ذكر الحديث بسنده طمأنينة لطالب علم الحديث، وحذف الأسانيد خسارة كبيرة، إذ الإسناد من الدين، وما كان سلفنا رحمهم الله يقبلون من محدث حديثا حتى يسنده، وينظروا في رجاله رجلا رجلا، كما هو معروف من سيرهم رحمهم الله.

وأما التخريج فهو يعين طالب العلم على جمع طرق الحديث، والحديث كلما كثرت طرقه ازداد قوة، والتخريج أيضا يعين طالب العلم على الوقوف على شروح الحديث، في الكتب التي قد شرحت، فرب حديث يكون عاما قد خصص، أو يكون منسوخا، أو يكون مطلقا قد قيد، من أجل هذا فإنه لا غنى لنا عن الرجوع إلى الشروح غير مقلدين لأصحابها، ولكن مستفيدين من جهودهم التي بذلوها في خدمة السنة، فجزاهم الله عن الإسلام خيرا.

هذا ويستفاد من التخريج وجمع الطرق أن الحديث ربما يكون ظاهره الصحة، وبجمع الطرق تظهر فيه علة من اضطراب أو انقطاع أو إرسال أو وقف أو غيرها مما يعل بها الحديث. فمن ثم يقول علي بن المديني: إن الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه. وإليك مثالا على ذلك: حديث جابر في «صحيح البخاري» فيمن يقول مثل ما يقول المؤذن، ثم يقول: «اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا [وفي «معاني الآثار» للطحاوي: آت سيدنا محمدا] الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته»، وفي «سنن البيهقي» زيادة: «إنك لا تخلف الميعاد»، فبسبب جمع الطرق علم أن هاتين الزيادتين شاذتان كما سيأتي إن شاء الله، في (أسباب الشفاعة).

هذا وقد أذكر بعض الأحاديث الشديدة الضعف والموضوعة لبيان حالها لا للاحتجاج بها، فإن بعض الأحاديث الموضوعة تستغلها بعض الطوائف المنحرفة لترويج باطلها، وإليك مثالا على ذلك وهو ما قرأناه في «العقد الثمين في معرفة رب العالمين»(36) ونحن بصعدة(37): «ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فهذا حديث ليس له أصل، إنما هو من أباطيل المعتزلة، كما في «أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب».

مثال آخر: حديث «ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم عندما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه» ولا يخفى على القارئ ما هو مقصد(38) واضع هذا الحديث، وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث الباطل في (أعمال متفرقة من أسباب الشفاعة).

تنبيه:

قاعدتي في الحكم على الحديث أنني أبحث في كتب المحدثين، فإن وجدت حكما لمحدث نقلته، ثم نظرت في رجال السند فإن ظهر لي خلاف ذلك الحكم من تصحيح أو تضعيف عقبت به على حكمه، وإلا أقررته كما هو، وأعتقد أن هذه الطريقة أسلم، فقد يظن الباحث أن السند صحيح ويكون قد اطلع العلماء على علة فيه، وقد يصححه متساهل، فيتناقله من بعده معتمدين على تصحيحه، من أجل هذا ألزمت نفسي بالجمع بين البحث عما قاله العلماء، والنظر في السند، وأيضا النـاس يطمئنون إلى تصحيح المتقدمين لعلمهم أنهم أوسع علما من المتأخرين. فإذا لم أجد لهم كلاما حكمت على الحديث بظاهر السند. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

اعتذار:

اطلعت على أحاديث في «كنز العمال» وفي «مجمع الزوائد» و«المطالب العالية» تعزى إلى مصادر ليست في متناولي فتركتها ولم تطمئن النفس إلى نقلها بدون أسانيد، وقد أخرجت في الغالب ما يغني عنها، وهكذا في الرجال فقد أبحث عن بعضهم فلا أجد له ترجمة في المصادر لدي، فأتوقف في الحكم على الحديث خشية أن يكون الراوي موثقا في مصدر لم أطلع عليه، أو يكون تصحف فما أكثر التصحيف في الكتب المطبوعة التي لم يشرف عليها من هو أهل للإشراف.

هذا، وقد أعرضت عن جدل أهل البدع وذكر أقوالهم والرد عليها، وسقت الأحاديث كما هي، ففي الأدلة غنية عن فلسفة أهل علم الكلام، وفي الأدلة قمع لبدعهم(39) فعسى الله أن يوفق المسلمين إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله اللذين هما أمان من الضلال والزيغ، وهما عصمة من الاختلاف الذي مزق الأمة الإسلامية وجعلهم شيعا وأحزابا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

«اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»(40).

_______________________

(1) العدل: الفداء.

(2) البقرة الآية: 48.

(3) الخلة: الصداقة.

(4) البقرة الآية: 254.

(5) يس الآية: 23.

(6) الأنعام الآية: 51.

(7) تبسل: تسلم، وقيل: تحبس، والمعنى تسلم للهلكة. اهـ مختصرا من «تفسير ابن كثير».

(8) الأنعام الآية: 70.

(9) قال الإمام ابن جرير -رحمه الله- (ج11 ص98): يقول أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض، وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السموات ولا في الأرض، وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله، فقال الله لنبيه محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السموات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما؟ وذلك باطل لا تعلم حقيقته وصحته، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما يقولون، وأنها لا تشفع لأحد ولا تنفع ولا تضر. اهـ المراد من كلامه.

(10) يونس الآية: 18.

(11) يقولون ذلك بعد خروج الموحدين من النار، ويدل على ذلك قولهم: ﴿فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين فإنه يدل على أنهم لم يكونوا مؤمنين في الدنيا، وسيأتي بيان ذلك في الأحاديث إن شاء الله.

(12) الشعراء الآية: 100-102.

(13) استوى استواء يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، ومن أحسن الكتب المصنفة في ذلك كتاب «العلو للعلي الغفار» للحافظ الذهبي -رحمه الله-.

(14) السجدة الآية: 4.

(15) الزمر الآية: 43-44.

(16) الآزفة: اسم من أسماء القيامة، سميت بذلك لاقترابها كما قال تعالى: 2أزفت الآزفة، ليس لها من دون الله كاشفة1.

(17) غافر الآية: 18.

(18) البقرة الآية: 255.

(19) يونس الآية: 3.

(20) مشفقون: خائفون.

(21) الأنبياء الآية: 26-28.

(22) صفصفا: مستويا.

(23) الهمس: الصوت الخفي.

(24) طه الآية: 105-109.

(25) الزخرف الآية: 86.

(26) النجم الآية: 36.

(27) الزمر الآية: 44.

(28) يونس الآية: 18.

(29) الزخرف الآية: 86.

(30) الزمر الآية: 13-14.

(31) سبأ الآية: 22.

(32) غافر الآية: 18.

(33) البقرة الآية: 255.

(34) النجم الآية: 36.

(35) الأنبياء الآية: 28.

(36) هو من رسائل الهادوية الشيعة، وليس هو كتاب الفاسي. ويدرس في صعدة عند الشيعة.

(37) مدينة باليمن وهي بلدنا.

(38) يقصد من هذا أن يكون الناس مسخرين لهم، وأن تكون مصالح غير العلوي للعلوي.

(39) وهذا شأن علمائنا المتقدمين كالآجري واللالكائي وقد ذكرت جملة طيبة من هذا في «ترجمة أبي حنيفة». وانظر في ذم الجدل أيضا «الشريعة» للآجري (ج1 ص185) بتحقيق الوليد بن محمد، و«شرح أصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي (ج1 ص114).

(40) الحديث رواه مسلم من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان يفتتح به صلاة الليل.


الشفاعة
  • عنوان الكتاب: الشفاعة
  • تاريخ الإضافة: 13 رجب 1426هـ
  • الزيارات: 654965
  • التحميلات: 20869
  • تفاصيل : الطبعة الثالثة دار الآثار للنشر والتوزيع
  • تنزيل: اضغط هنا للتنزيل  zip

فهرس الكتاب

تفريع الفهرس | ضم الفهرس

الشفاعة